موسكو ضد الوحدة؟

من الترجمات التي أعتز بها «خروشوف يتذكر» أوائل السبعينات. وقد أثارت المذكرات ضجة حول العالم لأن الزعيم السوفياتي «هرّبها» سرًا إلى الغرب بعيدًا عن أعين الدولة. الآن تعيد «المصري اليوم» نشر شيء من المذكرات، ومنها فصل عن موقف نيكيتا خروشوف من الوحدة المصرية - السورية عام 1958.
يومها عارضت موسكو قيام الوحدة، فذهب الرئيس جمال عبد الناصر إلى الكرملين لإقناع خروشوف بوجهة نظره. سأل الزعيم المصري: لماذا أنتم ضد هذه الوحدة؟ قال خروشوف: لأنها وحدة لن تدوم. السوريون تلقّوا علومهم في المدارس الفرنسية التي تلقِّن الحرية. وهم ميسورون وبورجوازيون، ولن يطيقوا طويلاً قيود الوحدة معكم.
اعترض عبد الناصر قائلاً إن السوريين أعربوا بحماس عن رغبتهم في الوحدة. عام 1961 حدث ذلك الانفصال الشهير الذي أجهض أحلام الوحدة في كل مكان. لكن ما هي خلاصة الأمر؟ أعِد قراءة الحدث جيدًا: زعيمان متحالفان متقاربان في كل شيء. الروسي يعتمد على المصري في كسب العرب والعالم الثالث، والمصري يعتمد عليه في مواجهة الغرب والسلاح والحرب مع إسرائيل. لماذا يختلفان إذن، ولماذا يكسب السوفياتي الرهان؟
لأن العربي عاطفي أصغى إلى الهتاف وقرأ افتتاحيات الصحف. السوفياتي أرسل رجاله يدرسون الوضع «على الأرض» ويراقبون حقائق المشاعر. وعرفوا أن أسس الوحدة غير ثابتة رغم حماس الفريقين لها. والحقيقة أنه لم تمض بضعة أشهر على «الجمهورية العربية المتحدة» حتى بدأ التململ من «الفوقية» المصرية. ومن يقرأ مذكرات الزعماء السوريين مثل أكرم الحوراني، يكتشف أن الوحدة غرقت في الحساسيات والتفاصيل الصغيرة. ومن يقرأ مذكرات محمود رياض حول المسألة يدرك أن عنجهيته كانت أحد الأسباب الأساسية في نفور السوريين من «باشاويته»، ولاحقًا من سلوك المشير عبد الحكيم عامر، الذي لم يكن يعي مدى عمق التذمر القائم في البلاد.
كان خروشوف زعيمًا على وحدة بشرية هائلة التنوع والمساحة. وكان يعرف صعوبة الاحتفاظ بالوحدة المركزية في هذه الحالات. ولذلك، نصح بالتمهل إلى أن يتم الإعداد للوحدة عبر خطوات أولية وعملية كثيرة. أما الحماس في الميادين فلا يدوم طويلاً بعد أن يعود الناس إلى بيوتهم وتخفت في آذانهم أصوات الهتافات.
لو أعطيت تلك الوحدة القليل من الوقت لكي تقام، والقليل منه كي تبقى، لكانت أنموذجًا قابلاً للتوسع والحياة. لكن فشلها حوَّل الدعوة إلى الوحدة إلى عملية تهريج ما بين المشرق والمغرب، انتهت بصولجان أفريقي مضحك.