المهاجرون واللاجئون والسؤال المهم !

لاغرو إذا ما إدعينا بإن حالة الهجرة التي نشهدها حاليا تعطي شهادة ادانة بحق حكومات بلداننا لأنها ظلت عاجزة عن تحقيق ما حققته حكومات البلدان المتقدمة لشعوبها.
 وليس هنالك من شك في أن الوضع في بلداننا ، مازال يؤشر حالة من التخبط وفقدان البوصلة بحيث لا تستقر الامور على سكة سليمة. بل ان المشاريع التي تم تبنيها لتحقيق الازدهار والعصرنة في الغالب قد تعرضت للنكوص بسبب الفساد المستشري. يمكن القول بمزيد من المرارة بإن مشروع التحديت والعصرنة لدينا، مازال هلاميا يفتقد اسس الرسوخ وعناصر الادامة. بل ان علو صوت الادلجة يدفع أحيانا الامور نحو تراجعات رهيبة قد تكون محبطة للآمال. مع هذا فان النمو يبقى حالة رهن الارادة الانسانية، غير عصية على التحقيق في حالة  وجود نزاهة تتبنى التخطيط السليم المستند على العمل العلمي المنهجي والإستفادة من الكوادر الوطنية، والتي لا يجب أن يشترط عليها الإنتماء الحزبي الضيق .
ولكن السؤال المهم هو الذي أطلقته المستشارة الالمانية (أنجيلا ميركل) حينما قالت بحق موجة المهاجرين الأخيرة التي اجتاحت اوربا بدءاً من جنوب شرقها (أو جنوبها) وصولا الى شمال غربها، بإن الغريب في الأمر ان المهاجرين (وهم مسلمون) لا يقصدون السعودية وفيها الحرمان الشريفان! هذه الحقيقة التي أثارتها المستشارة الالمانية تفتح بابا واسعا لتقصي الواقع الثقافي والمستوى الحضاري الذي تعيشه بلدان الشرق الاسلامي ومحنة الانسان المعاصر في هذه البلدان التي تعيش حالة من التخلف الحضاري المثقل بسوء الادارة وانتشار الفساد واللاعدالة. وهذه أمور كافية كي تجعل مواطني هذه البلدان ينسلخون من انتمائهم الوطني ويكونون على استعداد عال للبحث عن أوطان جديدة تضمن لهم العيش الكريم. ظاهرة ملفتة وإن قل الحديث عنها، هي توجه اللاجئين من جميع البلدان الفقيرة (بلدان العالم الثالث) خصوصا من بلدان آسيا وافريقيا الى دول أوربا الغربية تحديدا. الناس على اختلاف لغاتهم وأديانهم وثقافاتهم، حالما تضيق بهم سبل العيش في بلدانهم الاصلية، يهاجرون الى الخارج. وهذا الخارج يتكون من دائرتين مختلفتين جغرافيا، احداهما مركزية وتشمل بلدان اوربا الغربية، والاخرى ثانوية (هامشية- ملحقة) وتشمل امريكا وكندا واستراليا. هاتان الدائرتان رغم الاختلاف الجغرافي بينهما، الا انهما تقعان ضمن دائرة حضارية واحدة أساسها الحضارة الغربية التي اكتملت اركانها في القارة الاوربية وتمددت في العالم الجديد واستراليا.
  لقد شهد تاريخ البشرية منذ عصور سحيقة هجرات متعددة و قد تكون الهجرة حالة طبيعية بين أفراد اي مجتمع انساني. ومرد الطبيعية في مسألة الهجرة يرجع الى المهاجر الذي لابد وأن تكون لديه غاية (أو غايات) سامية تبرر له الهجرة وترك الوطن والمجتمع وكل ما لديه من روابط انسانية (اجتماعية وثقافية واقتصادية ومعتقداتية وغيرها)، ليخوض غمار حياة جديدة، ليس من السهل التأقلم معها. لأن المهاجرين عادة يستقرون في حضن بلدان جديدة مختلفة ثقافيا عن بلدانهم الاصلية. وهذا الأمر يفرض على المهاجر السعي لبذل جهود مضاعفة من أجل الانسجام في ثيمة مجتمعه الانساني الجديد. ولن يتأتى له ذلك الا بعد جهود كبيرة ومدة زمنية كافية قد تستغرق سنين من عمره.

موجة الهجرة الحالية ليست اعتيادية، بل هي هجرة اضطرارية، فالمهاجرون يتركون مدنهم وقراهم (خصوصا في العراق وسوريا) بعد أن تضيق بهم سبل العيش تماما، من أجل أن ينقذوا أنفسهم والأقربين من ذويهم، حيث تكون الهجرة خيارهم الوحيد. وهم بذلك يقدمون نموذجا خاصا من الهجرة التي لابد من استنطاق مسبباتها وتداعياتها والحالات العرضية التي تتولد أثناءها.

يمكننا القول بإن بلداننا عموما تعيش أزمة ثقافية واشكالية حضارية تزعزع كياناتها بين الفينة والأخرى. وبسبب هذه الأزمة وكم الاشكاليات التي تعاني منها، فان الازدهار والنمو يتعذر تحقيقهما فيها ، ومساعيها لتحقيق العصرنة والحداثة تواجه تحديات كبيرة، وبذلك يدخل البلد في حالات من الصراعات الثقافية والسياسية والمجتمعية التي بسببها يتعرض الانسان للاغتراب وتنعدم لديه خاصية الانتماء للجغرافية (الأرض: الوطن) وللمجتمع (الشعب: الأمة)، وهذا يدفعه للبحث عن وطن بديل.

 قد يتبادر الى الذهن ان المجتمعات الاوربية أيضا تحصل بينها حالات من الهجرة، خصوصا الى بلدان أمريكا واستراليا. وللتوضيح نقول إن حالة الهجرة بين الاوربيين تختلف عما هو شائع بين مجتمعاتنا. فالهجرة الاوربية محدودة النسبة، وهجرة الفرد لن تكون بقرار صميمي ينم عن التنازل عن الانتماء، بل هي هجرة لا تخلو من روح المغامرة والاستكشاف والبحث، علاوة على شيء واسع من حب التجريب والتقصي عن الأفضل بين أكثر من خيار.

وانسياقا مع متطلبات الانتقال الى دول اللجوء و(الجنان الموعودة) التي ينتظرها المهاجرون/اللاجئون، حري بنا التحدث، ولو بمزيد من الاقتضاب، عن الواقع الثقافي والوضع القانوني والخلفيات التراثية التي تجعل من بلدان (أوربا الغربية وامريكا وكندا واستراليا بالتحديد) قبلة للمهاجرين. إن واقع هذه البلدان يوفر غطاء قانونيا للاجئين ويتم التعامل معهم بمستوى راق من الانسانية بالشكل الذي يطرح نموذجا مثاليا (أو جيدا حد الحلم بالنسبة للاجئ) من التقدم الحضاري لبلدان اللجوء. ولا يمكن ادانة برامج هذه الدول من حيث احتواء طاقات المهاجرين وتوظيفها بالشكل الذي يتناسب مع احتياجات هذه البلدان. بل ان في ذلك الكثير من الذكاء والنباه. ثم ان الثروة البشرية للمهاجرين من العسف تركها دون عناية واهتمام، بل من الحكمة التعامل معها بشكل علمي ووفق برامج وخطط دقيقة. ومن الأمور الايجابية جدا، هو ان بلدان اللجوء في اوربا والامريكيتين واستراليا لا تتردد في منح اللاجئين جنسيات بلدانهم، وبذلك فهي ترفع من سوية المهاجر/اللاجئ وتجعله مواطنا بكامل الحقوق والواجبات.

هذه البلدان عاشت حالة من بلورة الذات وصياغة النموذج الحضاري المعاصر طوال قرون عديدة، بدءاً من عصر التصنيع والنهضة وهي مستمرة في تطوير واقعها الحضاري على مختلف الاصعدة. فهناك تطور في المجالات الاقتصادية والثقافية والتقنية والأنظمة والأساليب والتشريعات والقوانين، بل حتى عوالم الازياء والمأكل والمشرب يخضع لحالة من ديناميكية النمو والتطور، وغاية كل المساعي في القطاعين العام والخاص، هي تحقيق العدل والرفاهية والأفضل للمجتمع، وجعل سعادة الانسان الغاية الاسمى. وبذلك فان التشريعات الخاصة باللجوء وحقوق اللاجئين، ما هي الا جزء من حالة عامة يمكن أن نقول بحقها، إنها حالة من احترام انسانية الانسان والتعامل من موقع الاحساس بالمسؤولية التضامنية بين المجتمع وجميع أفراده، وبين الفرد والدولة كنظام مبني على اساس ميزان الحقوق والواجبات.

هكذا بيئة متقدمة تؤشر لحالة من الرقي الحضاري التي تعيشها المجتمعات المتمدنة. وهي تعبير عن تراث وثقافة رسخت جذورها بعد مخاضات طويلة دفع الكثير من المصلحين والقادة والعلماء والمبتكرين والمشرعين سنين من حياتهم من اجل ترسيخها اجتماعيا وشرعنتها دستوريا.