مذكرات د. صادق عبدالمطلب الموسوي مترجم اللغة الفرنسية لصدام حسين .. شــاهـد ورأى كــل شــيء



هذه مذكرات الاستاذ الدكتور صادق عبدالمطلب الموسوي مترجم اللغة الفرنسية المعتمد لدى الرئيس العراقي الاسبق صدام حسين اهدى لنا نشرها في "المشرق" على حلقات وهي المذكرات التي تبحث في سيرة الموسوي حتى وصوله الى القصر الجمهوري ويروي لنا انطباعاته في رحلة العمر عبر عقود من السنين قضاها مكافحا في الحياة ويسرنا ان ننشرها كاملة بالاتفاق مع الصديق الموسوي وهي تمثل الجزء الاول من مذكراته الصادرة عن دار الجواهري للطباعة والنشر والتي حملت عنوان "شاهد وراى كل شيء"!

إن الإنسان، كل انسان ماضٍ إلى حتفه آجلاً أم عاجلاً ويترك هذه الدنيا ولم يبقِ منه شيء إلا الذكريات والعمل الصالح والولد الصالح وكتاب ينتفع به للاجيال التي تأتي بعده... سفر الحياة هذا كالمسرحية كل منا يؤدي دوره في الحياة ويرحل.. وإذا شاء الخلود وليترك اثراً او بصمة تدل عليه في هذه الدنيا كما هو الحال مع النبيين والقديسين والصالحين والعلماء والمكتشفين والمخترعين الذين تركوا اثارهم إلى ابنائهم وأحفادهم جيلاً بعد جيل... لينتفعوا بها بنسب متفاوتة... وهناك من يولد وملاعق الذهب في فمه كابناء الملوك والامراء والاثرياء وهناك من يولد وحيداً فريدا يجابه الفقر والحرمان من اول يوم ولادته.. ويحرم من الطفولة ويتحمل المسؤولية وهو لم يزل طفلا يافعا.. ومن هذه الطبقة المعدمة في بعض الاحيان يخرج العظماء والعلماء والفنانين والمشاهير.. لان المعاناة تلعب دوراً مهماً في الابداع والخلق مع الارادة التي تصحبها الذكاء... ثم ينطلق كالبركان الثائر ليفرض كرامته ومكانته في المجتمع وهم ما يطلق عليهم بالعصاميين ويشرفني ويسعدني ان اكون منهم... انني لا اريد ان استعرض الكفاح المرير الذي خضته خلال الستين سنة الاولى من حياتي فانه بين يديكم ولكن اريد ان ابين أهم الاحداث والشخصيات والمواقف التي شهدتها والتي اعطتني درساً بليغاً في الحياة فقد تعرضت للكثير من المرات إلى الموت والاعدام رمياً بالرصاص والتقيت بشخصيات لعبت دوراً مهما في الحياة السياسية كالرئيس الفرنسي السابق "جاك شيراك" والرئيس التشيلي "سلفادور الندي" والرئيس السابق صدام حسين والرئيس ياسر عرفات والزعيم الكردي ملا مصطفى البرزاني والرئيس الافريقي "جان بيدل بوكاسا" ورئيس الوزراء الايراني الاسبق شابور بختيار وعدد كبير من الوزراء الفرنسيين والعرب والافارقة والقادة السياسيين وكان مع كل منهم حدث ومناسبة... ثم التقيت بالشعراء والادباء والفنانين العراقيين والعرب والاجانب. كـ الجواهري، محمود درويش، وعبد الرزاق عبد الواحد، وعبدالوهاب البياتي، وعبد الامير معلة، وحسين مردان، وعزت العلايلي والمخرج صلاح ذو الفقار والفنانة سعاد شعيب والفنان فريد شوقي وعادل امام وعمر الحريري وعمر الشريف... والتقيت بالنحات العالمي "سيزار" ومحمد غني حكمت وإسماعيل فتاح الترك والفنان إسماعيل الشيخلي والشاعر نزار القباني والشاعرة سعاد الصباح والشاعرة لميعة عباس عمارة... والتقيت بالمصارعين الفرنسي فيريري وعدنان القيسي والملاكم العالمي محمد علي كلاي... والاديب جبرا إبراهيم جبرا والدكتور المفكر أكرم فاضل والمؤرخ عبد الرزاق الحسني والعلامة الخطيب احمد الوائلي. ولا يسعني الا ان اشكر كافة اخوتي وتلاميذي الذين ساعدوني في كتابة هذه السطور وخاصة القاص المعروف عبد عون الروضان والسيد مازن اكرم فاضل والسيد عبد النبي جعفر الطائي الذي أعارني بعض الوثائق لهذا الكتاب والله ولي التوفيق..
أ.د صادق الموسوي

الفصل الأولِ/ كربلاء المقدسة
الولادة: كم هو جميل اسمك يا زهرة؟ أنت أجمل وأحلى من الورد يا زهرة, ندية, عطرة, صبورة, مخلصة, مؤمنة, عزيزة النفس, لقد ذبلت كل الزهور وبقيت أنت خالدة بروحك وبالقيم التي حملتيها حيث أرضعتني لبنها الطيب يا والدتي العزيزة. تحية إجلال وتقدير لتلك الليلة الربيعية في 21/ آذار من عام 1942 عندما اجتاحك المخاض وأنت في غرفة مظلمة من غرف دار "أم نجم" في العباسية الغربية بكربلاء مع ابنتك الصغيرة أشرف. عذرا والدتي العزيزة أن أقض مضجعك في مثل هذه الليلة الكئيبة وأنت تعانين من العزلة حيث والدي بعيد عنك في بحث دؤوب عن لقمة العيش في بغداد... وقد رفضت العيش مع أهلك حفاظا لكرامتك وكرامة والدي ولكن مشيئة الله قضت أن أرى النور في مثل هذه الظروف, ولو خيروني لاخترت المجيء في وقت آخر. كان موعدنا الصبح بعد أن بذلت كل ما تملكين من قوة وطاقة في ولادة "صادق" هذا الصبي الذي شارككم المر والحلو طوال حياتكم. ولو كنت أعلم ما ينتظرني ما كنت أتيت إلى هذه الدنيا, عذرا يا إلهي لم أقصد عصيانك, إلاّ أن جراحاتي أكبر من أن تلتئم ومع ذلك أقول لا حول ولا قوة إلاّ بالله.... لم أكن أعلم ما أجرته عليك نائبات الدهر وخذلان الأهل من جهة و آثار الحرب العالمية الثانية من جوع وفاقة ودمار وخراب وهي لم تزل آنذاك في أوارها تحرق الأخضر واليابس ومن الجهة الأخرى لم أكن أعلم يا والدتي العزيزة أنك اجتهدت كثيرا لتأمين ملابسي وقماطي!!! ومع ذلك فرحت واستبشرت خيرا إذ كنت تعويضا من الله لك عن خسارة ولدك البكر "علي" رحمه الله..... عندما سمع الوالد الخبر السعيد وهو في بغداد عند شقيقاته, طار فرحا ولم يتأخر في العودة اشتياقا لرؤية ولده الصغير "صادق" فقد كان عمي الشهيد قد أطلق علي هذا الاسم قبل وصول الوالد تيمنا بالإمام الصادق (ع). لم تكن كربلاء في ذلك الوقت أحسن حالا من باقي مدن العراق, فالاضطراب السياسي والاقتصادي والاجتماعي يعم البلاد بسبب الحرب العالمية الثانية, فإن كانت العوائل المرفهة الغنية تعاني من القحط والأزمات فكيف بالعوائل الفقيرة؟.... لم أعرف حلاوة الطفولة ولم أستمتع بلعبة واحدة بل كنت أراها من بعيد عند أقرأني الأطفال أو في الأسواق عندما أرافق والدتي... لقد كان الوضع الاقتصادي والصحي سيئا في كربلاء آنذاك وكانت نسبة الوفيات عالية جدا عند الأطفال لنقص الغذاء والدواء والعلاج فقد كانت والدتي رغم صغر سنها آنذاك فهي من مواليد/1920 قد فقدت اثنين من أطفالها للأسباب التي ذكرتها ولذلك كانت حريصة جدا على أن لا ألحق بإخوتي لدرجة أنها غامرت في اجتياز البساتين في وقت السحر وهي تحملني إلى المجزرة ليدخلني القصاب جوف أحد الخراف حديثة الذبح لشم رائحته من أجل الشفاء ولولا حماية الله وأحد الفلاحين الشرفاء لمزقتها الكلاب أو لحدث لها مكروه وهي في ربيع شبابها آنذاك.
الطفولة: لم أتذكر من طفولتي شيئا سوى أننا كنا نمضي الليل من دون الوالد كالأيتام وعلى مدى سنين طويلة فهو يعمل أمينا للصندوق في أحد فنادق كربلاء اسمه "شاطئ الفرات" مما يلزمه المبيت في الفندق عدا ليلة واحدة لقضاء الحاجة ولسويعات حتى أننا لم نكن نعرف متى يأتي ومتى يخرج! كانت الوالدة العزيزة زهرة هي بمثابة الأم والأب في آن واحد وكان علي الذهاب إلى الفندق إذا أردت رؤية الوالد أو أن أكون في حاجة بسيطة إليه لتلبيتها!! لم يكن لديه الوقت حتى في متابعة توجيهنا أو تعليمنا فقد كان العمل يأخذ كل وقته مقابل دراهم معدودة, ولم يكن هناك تحديد للنسل إذ ما أن بلغت الثالثة من عمري حتى جاءني أخ سماه والدي "هاشم" كان في غاية الجمال والذكاء, وعندما كبر كان لي بمثابة الرفيق والصديق, نذهب سوية إلى الفندق لمشاهدة الوالد ثم نعود سوية إلى الدار ودون رؤية الوالد في بعض الأحيان. كانت الوالدة تجابه الحياة اليومية وهي شبه أرملة! ولم تكن تتذمر أو تشكو لأقرب الناس إليها وبعد سنتين من ولادة هاشم حملت بشقيقتي زكية وفي هذه السنة أي عام 1947 هاجرت جدتي وأخوالي إلى خارج العراق وتركوا الوالدة وحيدة تجابه قدرها مع الوالد ومع ذلك لم تفتر عزيمتها ولم تضعف أو تتخاذل!
في صيف عام 1953 وكان أخي "هاشم" آنذاك في الثامنة من عمره قد أصيب بمرض "التيفو" وقد رميت مع أخي في ذلك الحر الشديد في إحدى غرف فندق شاطئ الفرات دون رعاية أو علاج لأخي "هاشم" إذ كان الوالد مشغولا بمهمة من قبل صاحب الفندق في إحدى الدوائر الرسمية. كنت أرى أخي يحترق من الحمى وتتمزق أحشاؤه من شدة القيء دون أن تكون لي القدرة على مساعدته أو إنقاذه حتى جاء الوالد, ولكن بعد فوات الأوان, فقد كان أخي في حالة احتضار, فتم نقل "هاشم" إلى الدار, والوالدة تنزف من شدة الحزن والألم عليه و لم يكن البنسلين قد عرفته الصيدليات بعد فهو حديث الاكتشاف ولو كان قد زرق بحقنة واحدة منه لتم إنقاذ حياته ولم يكن في حينها من الاطباء سوى كمال عبدالرزاق وجابر عبود ورشيد الغبان وكان الزحام على عياداتهم شديدا, لكنها مشيئة الله سبحانه وتعالى ففجعت والدتي بثالث طفل لها حيث توفي "هاشم" في الساعة السابعة مساء على سطح الدار بسبب الإهمال وعدم العلاج, فأين نحن من متعة الطفولة؟ ليس لدي من ذكرياتها سوى المرض والعزلة والحرمان والحزن..