في هذه الأيام النحسة التي تعيشها الشعوب العربية، وبصورة خاصة هذا الشعب المعذب في سوريا، أصبح الحنين للماضي واستعادة ذكرياته ضربًا من المخدرات الأمينة والسليمة وأيضًا الرخيصة لدى سائر المواطنين، ولا سيما في سويعات الجوع الممض. لا أدري إن كان اللاجئون أيضًا يستمتعون بها في ساعات محنهم ومعاركهم من أجل البقاء. ليس لي ما أصلهم به غير مواصلة الذكريات عن تلك الأيام الجميلة. كان الشيخ محمد الهلالي من أبناء مدينة حمص التي تردد ذكرها مرارًا في الأيام الأخيرة في نشرات الأخبار، وقد اشتهر في القرن التاسع عشر بموشحاته وأشعاره الدارجة. والمعروف عن حمص تنافسها مع مدينة حماه. ومنها انحدر في نفس الفترة شاعر فكه آخر هو الشيخ مصطفى زين الدين، تحدث عنه عبد الغني العطري في كتابه «أدبنا الضاحك» فقال: «لعل من أبرز هواياته حب الأكل». وقد روي عنه أنه كان نهمًا وأكولاً. وأخذ يتصدى للموشح الذي نظمه الهلالي فعارضه معارضة ساخرة في الوزن والقافية، وتنكر للغرض الذي نظمه الهلالي من أجله ليشيد بأصناف الطعام ويتغزل بمختلف المآكل اللذيذة، كالحلوى واللحوم. وكان الناس يروي بعضهم لبعض هذه المعارضات الضاحكة، ويشاركون قائلها مجونه وضحكه وسخريته. وما أجملها من أيام، حين كان أهل المدن يتبارون بالأشعار والطرائف لا بالقنابل والصواريخ. كان ابن حمص، الشيخ محمد الهلالي قد كتب في الغزل فقال في أحد موشحاته: يا بدر حسن كم سهرت أراقبه والليل مالت للغروب كواكبه ما من كليم الوجد أنت مخاطبه إلا ومغناطيس حبك جاذبه للحان والألحان – هم يا أخا الأشجان – في الحور والحسان فالحب دين والجمال مذاهبه
كلام جميل! ما إن قال الشاعر هذا المقطع من الموشح وسمع به رجل من أهل حماه، الشيخ مصطفى زين الدين، حتى تصدى لكلماته بهذه الأبيات الجوعية الأصيلة: يا صدر بصماكم برزت أحاربه والقطر طابت للنفوس مشاربه ما من أرز واللحوم تصاحبه إلا ومغناطيس بطني جاذبه بالكف والأسنان - بالله يا جوعان - قم سغسغ الرغفان فالجوع شين والطعام يناسبه
وما أحسب كل هؤلاء اللاجئين الذين شردهم النظام السوري إلا ويتغنون بهذه الكلمات. يقول العطري إن «المساجلات والمعارضات التي جرت بين الحموي الشيخ الهلالي والحمصي الشيخ زين الدين أصبحت في عهدها جزءًا من السجال التاريخي المستمر بين أهالي حماه وأهالي حمص». وكل ذلك طبعًا في أيام الخير وأين ذلك من أيام الشؤم، أيام بشار الأسد؟! ولكنني أود أن أضيف فأقول إن «شغف الشعراء السوريين بالموشحات وغنائها لا بد أن له رابطا تاريخيا بشعراء الأندلس في إطار علاقة حكم بني أمية، كما يلوح لي.
|