دغدغه الموت ولكن!! |
الدغدغة بمعنى المداعبة , كأن يتم تحريك أصابع اليد على خاصرة الشخص أو باطن قدميه , فيضحك وينادي "لا تدغدغني" , هكذا تستعمل في اللهجة السامرائية. وقد تذكرتها وأنا في حديث مع أحد الزملاء , الذي ذهب إلى المصرف لتحويل بعض المال لشراء كتب , فهو من المدمنين على القراءة والكتابة , بعد أن إمتطى ثمانية عقود من سِفر الحياة. وحال خروجه من المصرف , هوى على الرصيف وأصابته الرضوض والكدمات ونقلوه إلى المستشفى , ويصف مظهره بأنه صار مخيفا. يقول بأنه وهو على سرير المستشفى , راح يدرك بأن المسافة ما بين الموت والحياة قد تلاشت , وأنه على شفى الرحيل الأكيد. يقول فكتمت ذلك عن زوجتي , وما أبديت ما يشير إليه , لكنني عشت لحظات تمثل الموت والغياب واستسلمت لها بخشوع عجيب! وبينما هو على هذه الحالة المتيقنة بالموت , إقترب منه طبيب وناداه بإسمه وهو يقول: أهلا يا دكتور فلان! فأرجعه من إنقطاعه عن عالم الأحياء وسأله: هل تعرفني؟! فقال: كيف لا أعرفك وأنا أقرأ ما تكتب! في تلك اللحظة , غمرته سعادة فياضة إنتشلته من بئر القنوط والغياب , وأدرك بأنه حي ولن يتمكن منه الموت. يقول شعرت بأني موجود , وأن الموت لا يعني الموت المادي وحسب , فالإنسان الذي يعطي ما هو طيب ونافع لا يقترب منه الموت بل يخشاه ويأبى أن يداهمه! أما الذي يقدم الضار والسيئ , فأنه يموت حتما وينقرض وهو يخطو فوق التراب , فلن يبقى في الحياة إلا ما ينفع الناس , ويجدد سعادتهم وإيمانهم بالوجود المطلق. وذكر لي بيت الجواهري الذي قاله في قصيدته وهو يؤبن الشاعر المصري أحمد شوقي "لغز الحياة وحيرة الألباب أن يستحيل الفكر محض تراب", وكان شاعرنا يقصد بالفكر (أحمد شوقي وليس الفكر بذاته) , لكن محدثي يعترض على هذا البيت ولا يتفق معه , لأنه يرى أن الفكر لايمكنه أن يستحيل ترابا. وهذه التجربة منحته طاقات إضافية للحياة والجد والإجتهاد والتواصل في الكتابة والقراءة , إذ أدرك أنه بهذا السلوك , قد حقق إنتصارا كبيرا على الموت وهزمه , فقد وجد أن لحياته معنى , ورسالة إنسانية منيرة , عليه أن يرفدها بأنوار فكره ورؤاه , وتطلعاته الإنسانية الصادقة النقية الصافية الطاهرة. فالحياة لا تستقيم إلا بالتفاعلات الصالحة النافعة المبنية على القيم والمعاني السامية , التي تهدي البشرية إلى طريق الإرتقاء نحو آفاق الإنسانية الرحبة , الفياضة بالآمال وروعة الإنتماء إلى نبع الوجود المطلق. عاش محدثي يقظة الموت بكثافتها الوجدانية والفكرية والعاطفية , وقال بأن الحياة تحولت إلى فلم قصير مكبوس في لحظات أو بؤرة زمنية نقطوية الأبعاد , فهو يقول : "لم تعد الحياة إلا لحظات تداهمني لتغيب , لكنه ذكّرني بأنها متواصلة , فاستيقظت من يقظتي وعدت إلى حلم الحياة!" تلك حقائق إدراك الموت والغوص في مملكة الغياب وأودية الرحيل , التي تتهاوى فيها الأحياء , وهي تجري فوق أمواج تيار الوجود الهادر , الذي سيلقي بها حتما إلى خليج النسيان , أو مفازات التحول إلى أحجار ذات أثر على قارعة طريق الدوران في مملكة المكان. قلت لمحدثي: سلامات , متنيا لك الصحة والعطاء الفكري الغزير! قال: إنها ضريبة الثقافة والمعرفة , وقد دفعتها من رصيد ذاتي! قلت: العطاءات الأصيلة تبقى حيةً لا تموت! قال: ستكتب مقالة أم قصيدة؟ قلت: ستقرأ ما يشابه ذلك حتما! وتذكرت قول الإمام علي بن أبي طالب " الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا!"
د-صادق السامرائي |