أعود لذكر بلاد الشام، لأتذكر الشيخ ناصيف اليازجي، الذي كان قمة من قمم الأدب العربي الحديث في القرن التاسع عشر، ومن أظرفهم لسانًا وبيانًا. اشتهر بين أصحاب القلم بمجموعته الطريفة «مجمع البحرين»، التي ضمت الكثير من الطرائف والنكات والتفكّه والأزجال الشعبية الحلوة، ومنها أرجوزة المقامة التهامية التي تعدد أصوات الحيوان المختلفة. ومقاماته من أظرف كنوز الأدب العربي الحديث، مما سأتعرض إليه في مقالاتي المقبلة. ولعلنا نتلمس شيئًا من روحه الخفيفة وميله للظرف والفكاهة فيما أدلى به من تصريح صريح في هذا البيت الذي عبّر عن مدرسته حين قال: أجل الشعر ما في البيت منه غرابة نكتة أو نوع لطف
وكثيرًا ما اختلط الظرف عند ناصيف اليازجي بالحكمة والفلسفة، أو فلنقل: كثيرًا ما عبر عن أفكاره الفلسفية والحكمية في قالب الظرف والسخرية، كما ذكر في أحد أشعاره، حيث قال: إذا هلكت رجال الحي أمسى صبي القوم يحلف بالطلاق
وهو ما يجري الآن في العراق، حيث أصبح القوم يتزوجون ويطلقون في طفولتهم، بل ويشترون عمارات بالملايين تُكتب بأسمائهم. ومن غزواته الشعرية في عالم السياسة قوله: متى ترى الكلب في أيام دولته فاجعل لرجليك أطواقًا من الزرد
ولليازجي الكبير غزوات ظريفة في ميدان الهجاء والمداعبات الإخوانية، كقوله في شهابي بخيل: قد قال بعض إن خبزك مالح والبعض أصدر بالحموضة حكمه كذب الجميع بزعمهم في طعمه ما ذاقه أحد ليعرف طعمه!
وهذا من أظرف ما قيل في البخل في الأدب العربي، وهو كثير. وكما قلت آنفا: كان الشيخ اليازجي مولعًا بالزجل كأكثر أدباء بلاد الشام في أيام عزها. وأورد في كتابه «مجمع البحرين» الكثير من هذا اللون الممتع من الأدب الشعبي، الذي يمزج بين العامية والفصحى والجد والهزل، فيـــــعطينا تــــــلك النكهة المســـــــــتحبة مــن الأدب الشعري. وكان من أظرف ما أورده قوله: شابهت بدر الأفق بالخلقا لما لبست الجبة الزرقا أنت القمر والشمس يا غندور ومن وين الك ها المشقا
|