بحر من البكتيريا.. يعيش فينا

بعيدًا عن الحديث حول البكتيريا التي تعيش من حولنا، فإن خلايا أجسامنا في واقع الأمر تسبح في بحر من البكتريا. والبكتيريا كائنات حية أحادية الخلية، منها ما هو ضار ومنها ما هو نافع ومنها ما لا يبدو لنا حقيقة دوره. وجسم الإنسان مكون من خلايا ذات أنواع متعددة، منها خلايا دم حمراء وخلايا دم بيضاء وخلايا كبد وخلايا كلى وخلايا عضلة قلب وخلايا عضلة رحم وخلايا عضلات وخلايا دهنية وخلايا جلدية وخلايا دماغية، وقائمة طويلة من أنواع الخلايا الأخرى. وهذه الخلايا المكونة لمجموع جسم الإنسان تجتمع مع بعضها البعض ضمن تراكيب دقيقة لبناء أعضاء، ولذا لدينا كبد وكلى وقلب ودماغ ورحم وجلد وغيرها من أعضاء الجسم. هذه الخلايا البشرية الحية المكونة لجسم الإنسان لها عدد، كأي وحدة في بناء هيكل ما، وهذا العدد يزيد وينقص بفعل أسباب عدة، ولكن لها معدل عدد تقريبي، إذ وفق ما تشير إليه المصادر العلمية، يتكون جسم الإنسان على أقل تقدير من نحو 10 تريليونات من الخلايا البشرية.
وبغض النظر عن العدد الفعلي لخلايا إنسان ما في مرحلة ما من عمره ووفق حجمه ووزنه وطوله وعرضه، وفي الحالات الطبيعية للتمتع بالصحة مع عدم وجود أمراض ميكروبية في أي من أعضاء الجسم، يبقى السؤال: هل أجسامنا مكونة فقط من تلك الخلايا البشرية؟ أي في داخل كتلة الجسم، هل الخلايا الحية التي تعيش في هيكل الجسم بالعموم هي خلايا بشرية حية فقط؟
الباحثون من مؤسسة هاوارد هيغس الطبية في ولاية مريلاند الأميركية يُجيبون عن هذا السؤال بالقول: هناك في جسم الإنسان تعيش مع خلايا الجسم البشري، مجموعات من فصائل شتى من البكتيريا التي تقدر أعدادها بالتريليونات، ولكي تُبسط الأمر في الفهم تختصر العبارة لتقول: تعيش معنا وفي أجسامنا بكتيريا عددها 10 أضعاف عدد الخلايا البشرية الحية المكونة لجسم الواحد منا، أي لكل خلية بشرية حية في الجسم هناك عشرة بكتيريا تعيش حولها. ونظرًا لاختلاف الوزن والحجم فيما بين خلية البكتيريا وخلية الجسم البشري، فإن مجمل وزن البكتيريا التي تعيش في جسم أحدنا في وقت ما هو ما بين 1 إلى اثنين ونصف كيلوغرام. ولكن قد لا يثير الأمر دهشة حينما نعلم أن في كل غرام من التربة نحو 40 مليون بكتيريا، وفي كل مليلتر مكعب من ماء الأنهار نحو مليون بكتيريا.
واكتشاف وجود أنواع البكتيريا هذه التي تعيش في أجسامنا فرض على الباحثين الطبيين وضع تعريف لها ودراستها ومعرفة ما هي الأدوار التي تُؤديها وكيف تتفاعل مع خلايا وأعضاء وأجهزة أجسامنا ومحاولات التعرف على كيفية الاستفادة الطبية منها وغيرها الكثير من الجوانب التي تحتاج إلى إجابات وتحتاج في نفس الوقت إلى استثمار صحي. وغالبية البكتيريا الصديقة توجد في الأمعاء الغليظة وأجزاء من الأمعاء الدقيقة إضافة إلى الفم والأنف والجلد ومنطقة الأعضاء التناسلية. ومن ثم ظهر مصطلح «بكتيريا صديقة» Friendly Bacteria، التي لا يُؤدي وجودها إلى الإصابة بالأمراض وربما تكون نافعة، وذلك في مقابل «بكتيريا ضارة» التي يُؤدي وجودها إلى الإصابة بالأمراض.
البداية في البحث، عن احتمالات جدوى هذه البكتيريا التي تعيش معنا في داخل أجسامنا، كانت من معهد باستور في باريس، وعلى يد أحد الباحثين الروس، وهو إيلي ميتشنكوف، الحائز على جائزة نوبل، والذي طرح في عام 1907 فكرة احتمالات تحقيق الاستفادة من البكتيريا النافعة للتغلب على البكتيريا الضارة حال وجدها في الأمعاء. وبنى فكرته على ملاحظته أن سكان بلغاريا يعيشون أطول نسبيًا مقارنة بغيرهم من سكان أوروبا وأن ثمة فارقا في تغذيتهم يتمثل في تناول اللبن المخمّر بالبكتيرياBacteria Fermented أو ما يُعرف باللبن الزبادي. وقال إن البكتيريا في الأمعاء تُنتج مواد ضارة للجسم تتسبب بتسريع عمليات الشيخوخة، والوسيلة لإبطائها هي الاستفادة من البكتيريا غير الضارة الموجودة في اللبن المخمّر بالبكتيريا التي تنتج أحماضا تبطئ نمو البكتيريا الضارة في الأمعاء. وبعدها توالت الاكتشافات والبحوث والدراسات حول جوانب تلك النوعية من البكتيريا وكيفية الاستفادة منها.
وما تجمع لدينا اليوم من المعرفة حولها في الأوساط العلمية كثير، إلا أنه لا يزال غير كاف لوضوح الصورة وتوثيق كيفية الاستفادة الطبية، ونشأ مصطلح بروبيوتك، أو «معزز حيوي» Probiotic بمقابل «مضاد حيوي» Antibiotic، لوصف استخدام البكتيريا لمعالجة الأمراض. وتُعرف منظمة الصحة العالمية ومنظمة الفاو «بروبيوتك» بأنه بكتيريا يتم إدخالها إلى الجسم بغرض المعالجة المحتملة الفائدة.
أجسامنا تتعامل طوال الوقت مع ظروف بيئية نجهل عنها الكثير، وتعمل أجسامنا طوال الوقت على التكيّف معها وعلى حفظ صحة الجسم، وإضافة إلى عملنا على وقاية أنفسنا من الأمراض وطلبنا من الأطباء معالجتها حال إصابتنا بها، فإن علينا ببساطة أن نوفر لأجسامنا كافة احتياجاتها البسيطة كي يقوم الجسم بدوره في حفاظه على صحتنا. والتغذية الطبيعية وممارسة المجهود البدني والإقلاع عن التدخين والكحول وأخذ قسط كاف من النوم الليلي والابتعاد عن التوتر، كلها أبجديات إعطاء أجسامنا فرصة لكي تخدمنا. وحال العكس، نكون نحن أول من يُؤذي أجسامنا ونكون نحن منْ نُعطي الفرصة للميكروبات كي تتسبب لنا بالضرر.