هجرة البغدادين الجماعية قبل عشر سنوات

 

تحدثنا في مقالنا السابق عن تلك الليالي، التي كانت فيها القذائف الثقيلة يصم انفلاقها وانفجارها الأذان، ويهز الجدران، ويبعث الأحزان، مما دفع أهالي بغداد للبحث عن مأوى أكثر امانا مهما كانت الصعاب، التي تنتظرهم وهم هائمين على وجوههم حشودا تعبقها حشود، كما تحدثت عن طريق بغداد – بعقوبة لأنني من الذين سلكوا ذلك الطريق يوم 5/4/2003 بعد أن أجبرت على مغادرة داري كما ذكرت سابقا، لأن الليلة السابقة كانت لا توصف، من حيث القصف الكثيف، وما يقابله من نيران أرضية مضادة عشوائية، وكنا جميعا في حالة يقظة كاملة وننتظر قدرنا، وبقيت أترقب الوضع حتى منتصف النهار حيث أنعدم وجود سكان في المنطقة، وبعد تناول طعام الغداء طلبت من الأولاد حزم ما يستطيعون من أمتعة وقناني ماء ومواد غذائية من ذلك الذي خزنته قبل أن تبدا الحرب، فأستجابوا لذلك بسرعة فائقة، لأنهم شاهدوا ماذا فعلت القنابل العنقودية في الليلتين الماضيتين، والتي أدت الى مقتل سائق سيارة أسعاف كان قد مر مسرعا مخترقا منطقتنا بأتجاه الموقع الذي قصف، أما العسكريين فلا نعرف عددهم . عرجت على بغداد الجديدة لأخبار أهلي بوجهتي وكانت شوارع بغداد تشهد حركة بطيئة جدا للعجلات لأن أكثر سكانها كانوا قد غادروها وانتشروا في المحافظات الأخرى، وما أن وصلت سيطرة الراشدية حتى تأكد لي ذلك من زحمة السيارات التي لامثيل لها وأصبحت كالسلسلة التي بلا نهاية، مع مناظر أخرى تبعث على الآسى لأناس أعتمدوا على أقدامهم للهرب من الخطر الداهم الذي يطرق أبوابهم كل لحظة وجعلهم يجافون النوم، ومن بين ما شاهدت في الطريق الى بعقوبة ركوب بعض الناس للخيول، والحمير للهرب من شرور الاقدار، وكان أكثر منظر لافت للنظر هو أستخدام سائق شفل ( لكيلة ) الآلية آنفا في حمل أفراد عائلته مع بعض الاثاث الضروري لهم، بأمكان بساتين منطقة الراشدية بطريقها السياحي المتجه صوب مدينة البرتقال أستيعاب عدد كبير من الناس المهاجرة، ولكن وقوعها ما بين معسكري التاجي وحماد شهاب وقصفهما المستمر جعل أهل بغداد يتجنبونها . أستغرق طريق الذهاب الى بعقوبة أربع ساعات كما ذكرت سابقا، وكان وجهتي دار عديلي المرحوم ( أبو حيدر ) رحمه الله الذي أستشهد على يد الارهابيين ووصلني أن من خطط لقتله أحد جيرانه الذي كان يحسن اليه ( أذا انت أكرمت اللئيم تمردا ....... ) وكان السبب طائفي بحت . وما أن وصلت الى هناك حتى وجدت الدار قد أكتظت باكثر من ثمان عوائل وعدد كبير من الاطفال، مما يجعل تحمل الموقف صعبا وزاد من هذه الصعوبة ما تعرض له معسكر سعد في المدينة حيث مقر الفيلق الثاني العراقي من قصف لا يختلف قسوة وعنفا مما كنا نعاني منه في بغداد، وتبين في اليوم التالي أن هذا القصف كان تمهيدا لوصول قوات مجوقلة، كانت تتقدم عن طريق جلولاء وخانقين بعد أن تم أنزالها في مناطق مختلفة من كردستان العراق، خرجنا في الصباح لتسوق ما نجده متيسرا وخاصة الصمون أو الخبز، فوجدنا شوارع بعقوبة مزدحمة أزدحاما شديدا ومكتظة بالبشر والسيارات وطوابير من الرجال والنساء، على الأفران والمواد الغذائية وكل ما يفيد في الطبخ ويصلح للأكل مع ارتفاع الاسعار، ولكنه لم يصل الى ما وصلت اليه الأسعار في مدينة البصرة تلك الايام حيث بيع لتر الماء الصافي بثلاثة دولارات، ولاحظت الكثير من الناس قد لجأوا الى الدور والبنايات تحت الأنشاء للاحتماء بها ما أمكن من العاصفة الترابية، التي ضربت العراق في تلك الظروف القاسية، أستمر القصف العنيف على مقر الفيلق الثاني ولليلة الثانية، التي لم يكن ازعاجها بالنسبة لي باقل مما كنا نعاني في بغداد وكذلك الرعب الذي ألم بالنساء والاطفال . لم تنسينا كل هذه المعاناة متابعة أخبار العاصمة التي تركتها وقد دخلتها القوات الأمريكية من الجنوب ( الدورة ) ومن منطقة المطار حيث ذكر أن ثلاثة مواقع رئاسية قرب المطار قد سقطت بيد الأمريكان الذين أرادوا أن يجعلوا من المطار نقطة أرتكاز لهم، كما أنهم وصلوا منطقة الرستمية بداية قناة الجيش استمرارا لتقدمهم على طريق الكوت . بسبب الهرج والمرج في دار مظيفنا ( المرحوم شهيد الارهاب لاحقا ) أقترحت على العائلة الذهاب الى مدينة أبو صيدا لمشاهدت بعض عوائلنا من الأخوة والأخوات الذين لجأوا الى أقارب لنا هناك فكان منظر الناس الذين أفترشوا جانبي الطريق مأساوي ومذل أفترشوا فيه الأرض وألتحفوا السماء في ذلك الجو المغبر، قد يظن القارئ أن هذه الحالات فردية ولكنها جماعية شملت عشرات الآلاف من العوائل، وبعد أن أطمأنا على الموجودين في أبو صيدا والتي لم يكن حال الدار بافضل من دار بعقوبة رجعنا الى الأخيرة، والألم يعصر قلوبنا مما شاهدنا من هجرة مهينة لأهل بغداد وعلى أمتداد الطريق الى مندلي مرورا بخانقين . عرض تلفزيون العالم هذا اليوم 7/4 صورا لجنود أمريكان في أحد القصور الرئاسية، وهم يلعبون الورق وبحالة أسترخاء كامل، وعند عودتي الى بعقوبة غيرت مكان أقامتي في دار أخرى لأقاربنا كانت أقل أزدحاما . نقلت لنا الأخبار حصول اضطربات أهلية في المدن التي أجتازتها القوات الأمريكية، البصرة، الناصرية، العمارة، مع أخبار عن وصول المتطوعين العراقيين الذين كانوا يدربون في أوربا بقيادة أحمد الجلبي الى مطار الناصرية . تواترت أنباء عن حدوث أعمال نهب وسلب مؤلمة في مدينة البصرة وباقي المدن، وهذا ما تتحمل مسؤوليته القوات الحليفة، التي كان من المفروض بها أعلان حالة منع التجول، وتحذير اللصوص والسراق مغبة أعمالهم الدنيئة وهذا ما لم يحصل . سيطرت القوات الامريكية يوم 8/4 على الجزء الغربي من نهر دجلة ( الكرخ ) وهي في طريقها للعبور على جسور بغداد، لألتقاء القوات المتقدمة التي تخوض قتالا في معسكر الرشيد الذي أستولت عليه فرقة المارينز الأولى، والتي أتخذت من المركز الأعلامي العالمي في فندق المرديان مقرا لها لاحقا، وكانت لي معهم حكاية طويلة سيتم نشرها في المستقبل أنشاء الله، وقد أنقطع بث تلفزيون وأذاعة بغداد تماما هذا اليوم . حتى هذا اليوم دونت مقتل ثلاثة صحفيين من وكالات عدة : مراسل رويترز وهو في فندق الميرديان، والصحفي الأمريكي كلي الذي كان يرافق القوات الأمريكية في المطار، وصحفي أسباني هو الثالث، مع جرح عدد أخر . أما في صباح يوم 9/4 فأن القوات الأمريكية دخلت مدينة الثورة، وأطلقت سراح عدد من الفتية كانوا سجناء في منطقة الرشاد ( حوالي 100 سجين)، وتعرضت جداريات وصور صدام للتدمير والتمزيق من قبل الاهالي في منطقة الحبيبية، علما أن الظهور الرسمي للقادة العراقيين قد أختفى تماما . وفي الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر ظهرت الدبابات الأمريكية في ساحة الفردوس ليوضع حبلا في عنق التمثال الضخم المنصوب هناك، فسقط ومعه أكبر حقبة سوداوية في تأريخ العراق قدم الشعب فيها ملايين الضحايا ظلما وجورا وطيشا وأستهتار . حاولت العودة باليوم نفسه الى بغداد فأعترض الجميع أعتراضا شديدا، وفي صباح اليوم حزمت أمري وتوجهت مع الاطفال الى العاصمة فوجدت الكثير من الناس قد سبقوني الى الطريق المؤدي الى هناك ولم أصل الى داري الا بعد رحلة محفوفة بالمخاطر المميتة أستمرت سبع ساعات، تصلح لأخراج عشرات الأفلام المثيرة في هوليود . والحمد لله على سلامة من كتبت له السلامة .