صائغ الفقرات الذهبية

تعيد صحيفة «الأنوار» كل يوم، نشر كتابات مؤسسها وأحد رواد الصناعة الصحافية العربية، سعيد فريحة. وقد قرأت معظم تلك المقطوعات غير مرة. وقد أمضي مرات كثيرة في تكرار قراءتها. وفي السابق قرأت سعيد فريحة كأستاذ وكساحر وخلاّق وأسلوب لألأ، مفاجئ، سياب. وقرأته كمتعة خاطفة أو ضحكة تقفز مثل رف من الحجال من غابة كثّّة. أو كساخر حاد قاطع يحسم خلافاته مع زملائه، مثل دارتانيان في رواية ألكسندر دوماس «الفرسان الثلاثة»، أي بلكمة لا تقتل، لكنها تفرض الاستسلام.
أعرف أنني كتبت لكم كثيرًا عنه. وأعرف أن ثمة جيلاً لا يعرف عنه شيئًا. وأعرف أن زمن الظرف واللمحات حلّت محله البياخة والاجترار. ولكنني لا أستطيع أن أقاوم الحديث عن سعيد فريحة الصحافي. الأشياء المنشورة اليوم مؤرخة عام 1946. وفي كل قطعة يبدو ذلك الموهبة الخارقة صحافيًا من أعلى جامعات أميركا: فقرة المدخل، وفقرة الشرح، وفقرة الجذب، وفقرة الاستدراك، وفقرة الاستطراد، وفقرة العلو، وفقرة الله عليك يا معلم.
كان غسان تويني قائد أوركسترا يعرف كيف يؤدي أصعب قطعة كلاسيكية من دون أي نشاز. وكان كامل مروه متعدد الآفاق يعرف كيف يجمعها ويضبطها. وكان سعيد فريحة عازف كمان يثري أي فرقة يدخلها، أو يقوم مقام فرقة كاملة إذا عزف منفردًا، جانب الحزن أو جانب الفرح أو جانب التغريد.
كان في إمكانه أن يحوّل مجموعة من تفاصيل بسيطة لا تعني أحدًا إلى حكاية تحفظها الناس. وكان يلتقط من السهرات ومن الشارع، ومن السياسة، ومن الغرام، ومن المحاكم، ومن الصداقات، ومن السندات المتراكمة، ويحوّلها كلها إلى مقروءة نادرة. وإذا كان الأدب الكلاسيكي هو الذي يبقى مع الوقت، فإن سعيد فريحة هو الصحافة الكلاسيكية التي تعود إليها اليوم بمتعة تفوق ما كانت عليه قبل ستين عامًا.
أقرأ صحافات سعيد فريحة عام 1946 بحثًا عن مبالغة أو استعجال أو هفوة أو إساءة يعاقب عليها القانون، أو فقرة زائدة تسبب الملل، أو غلطة مطبعية أو انبهار لا قيمة له، فلا أجد سوى صحافي حديث لا يخرج على دروس وقواعد أعلى جامعات الصحافة. يا للدقة الأخّاذة. يا للكلمة التي لا تستطيع أن تحذفها أو أن تبدلها أو تضيف إليها. يا للموهبة الذهبية في أيدي الصياغين.