هل رأيت العراق؟!! |
كانت السماء تمطر قحطا والأيام تشتد نطحا , والجراح تزداد غورا والحكم يستحضر جورا. لكن الحياة يسودها الأمان برغم التداعيات والحرمان, والزمان بلا ألوان , والمكان يحتدم فيه البؤس والإمتهان , فيتدفق الويل من عيون الإنسان. وفي لحظة كونية بلا أبعاد , إنسل الطير من عش الأعماق , وغاب في طيات الأكوان , مثقلا بالدموع والخيبات والأحزان. ودار به دولاب العمر وأوجعه الغياب والنسيان. وفي برهة من الوعي والإدراك الغامر , إستيقظ من غيبوبة الذوبان في بدن الرحيل والإغتراب , وأعلن ثورته الذاتية , فأحرق جدران الخوف واالتوجس , وطار إلى عشه يحمل ما عتّقه من الأشواق والأشجان. غادر الطير عشه مهموما محبطا متحديا , مطعونا بآماله وطموحاته , ومعلنا التنازل عن حياته والمغامرة بوجوده , فكانت لحظات إنخلاعه من بدن عشه , من أرعب وأقسى وأمَرّ اللحظات , التي تتحول فيها الحياة إلى أوهى كينونة في الوجود. لكنه وجد نفسه في عالم آخر , مقطوعا ثملا حيرانا , كأنه وُلد من رحم الذات الأبدية , مطلوقا في بيداء البشرية , يبحث عن مواضع جديدة لخطواته , التي تعودت السير في دروب المخاطر والعثرات المصيرية. ويبدو أن ناعور التواصل والإنطلاق قد أخذه إلى حيث يأخذ أهله الجد الإجتهاد , فينغمر بطاقات التجدد والعطاء والإندماج بالذات الفاعلة في دائرة القوة والنماء. وكان للطير أن يطير , إلى ذلك العش الذي تمتد فيه جذور كينونته على مسافة عمر الأزل , وتعلو دوحة ذاته في فضاءات الأبد. فحلق بطائرة قطرية , إلى بلاد ذات تأثيرات دولية , وتبدو وكأنها قوية, ومنها أخذته طائرة أخرى إلى مدينة بغداد الأبية. وحالما إتخذ مقعده داهمته العبرات وأغرقته الدموع والتنهدات , وما عرف كيف يضبط مشاعره , فرائحة العش قد تولته وأخرجته من توحده ومادية تفاعلاته التي كبلته بأخلاق الجماد. تلك الرائحة التي عبقت في المكان , وبعثت الأحاسيس من مكامنها وأطلقتها حرة فياضة حارة , لتشعره بقلبه وروحه وبأنه لا يزال هو الإنسان! وكانت الأرض تبدو وكأنها ذات انتظام , والصورة ذات معالم حضارية , وحار بين ما يراه وما كان يراه فوق الأراضي الأوربية , فتساءل عن صحة ما يراه , أو أنه وهم وتصور قد غشاه , لكن الشوق راح يدغدغ خوالج روحه ويداعب أوتار نفسه المتيمة بنبع أصله وكيانه. وغادر الطائرة ليخطو على أرض لم تطأها قدماه منذ أكثر من عقدين , وأخذ يحملق بالوجوه التي تملكت المكان , وانهالت الذكريات كالتيار الهادر , فطفح رأسه بالأعاصير والعواصف والرعود والأمطار , حتى صار يمشي مذهولا وكأنه في حلم غريب. - أهلا يا دكتور! قال موظف الجوازات , بعد أن حدّق بأوراق الجواز وأضاف: - منذ متى لم تأتِ للعراق؟ إنحشرت الكلمات وسبقتها العبرات , التي انفلتت بطاقة عجيبة يصعب التحكم بها , وكادت دموع الموظف أن تسيل , وهو يرقب قسمات وجهٍ ذات إرتعاش غريب , فقد إغرورقت عيناه , وكأنه يقول للطير الولهان: يا لمأساتنا أجمعين!! كأن المطار كما هو , حيث أمضينا بعضا من ليالي الصبا في أروقته , نرقب المسافرين ونحلم بأننا سنطير منه ذات يوم ما , لكن ذلك الحلم لم يتحقق , ولم يحلق الطير من مطار عشه , وإنما إنسل كالطريدة التي تريد النجاة بروحها من الضواري التي تتعقبها , أو إستعدت لأكلها. فمسح يده بجدران عشه , وطار بريشه سعيدا بجناحيه , وهما يحملانه إلى حيث يستطيع التحليق والطيران. حمل حقائبه الثكلى بالأفكار والتصورات والمخاوف والتوجسات , وهو يسعى صامتا وسط حشود المسافرين الذين يتزاحمون للصعود في حافلات , ستقلهم إلى ساحة عباس بن فرناس , عِبر طريق موحش يبعث رسائل توجس وقلق وفقدان أمان. لكن جوانبه ذات لون أخضر , وتعمل فيها أيادي تسعى لإشاعة الجمال وتحسين وجه المدينة, التي أكلت قسماها المآسي والويلات والحروب وشرور البهتان. شعر الطير بلذة الإقتراب من بطن عشه , وأخذ يتحسس معالمه ويبصرها بعيون أعماقه المحدقة في محيط الذكريات الجياشة الغامرة. كان الناس من حوله ينتقدون ويتذمرون ويتهمون ويلعنون ويتألمون ويتحسرون ويشكون , وتنامى الحديث المترع بما هو سلبي وحزين. ومصدر توجعاتهم أنهم قد شاهدوا الدنيا من حولهم , فتساءلوا عن أسرار وأسباب علتهم وعوقهم وقهرهم وسوء أحوالهم , فصاروا يتحسسون من السلوك الأعوج , الذي أبداه سائق الحافلة عندما أنكر وجود مكان للحقائب فيها , وأصر أن تكون مع الركاب , فتكدست فوق الكراسي مع الناس. قال أحد الركاب: كيف لا يكون في الحافلة مكان للحقائب , هذا كذب وإفتراء! ولم يجبه السائق. وقال صاحبه: إنه الفساد , إنهم فاسدون! وقال الذي يجلس بجانبي: ألا ترون كيف يتعاملون , إنها ألاعيب , لا أكثر! وقال آخر: يا جماعة , الحمد لله على السلامة , ما هي إلا دقائق ونصل الساحة! فعند بوابة المطار يتسابق إليك الشباب المتحمس لحمل الحقائب إلى الحافلة , مقابل بضعة آلاف من الدنانير التي لم تعهدها من قبل فتحتار بقيمة ما تعطي. وتراهم يتشاجرون أمامك , ويأتيهم من يصيح بهم : شنو هاي على كيفكم! لكنهم يزدحمون , وتنطلق كلمات ذات طعم آخر , وتستسلم لمن يتمسك بحقائبك وتذعن لأوامره , وتدلف إلى الحافلة وقد تكدست حقائبك على بعضها فوق الكراسي , وبين الناس الصاعدين إليها , والتي تم حشوها بالحقائب والبشر. قال الشخص المجاور لي: أوف شيخلصها , ما نجوز , هاي حالنا! فأجاب آخر: يمعود مستفادين , لو ما بيها فايدة ما تدوم على هذا المنوال , بس ولد الخايبات ماكليها! ................. ومضت الحافلة , تمرق الطريق , والطير في صمت عميق , وترقب وشعور بالحسرة والألم , وفي رأسه ألف سؤال وسؤال والجواب محض سراب! قال الطير: إنهم يكذبون , العراق بخير! ومضى: إنهم يعملون ويزينون الشوارع ويستثمرون في اللون الأخضر , وهذه علامة حضارية رائعة! فكل شيئ يبدو بمسحة جمالية! وقال لنفسه: لا تتسرع في الأحكام , عليك أن تدخل المدينة وتتحسس الحياة. وبين النظرات المتوجسة القاسية والقسمات الشاكية والأحاديث العاتية , والحافلة المتمايلة السكرانة , وسائقها الذي لا يرضيه أن يمضي بالناس مجانا إلى بر السلامة , وجدتنا في زحمة ساحة , وقد إعتلاها تمثال عباس بن فرناس بجناحيه الذين حلقا به في محطات الهذيان والسراب , وترجلنا وسط هجوم العشرات من الذين يريدون أخذنا إلى حيث البعيد. - تفضل , التكسي حاضرة , وين تريد أوصلك! - شكرا هناك من ينتظرني, إسمح لي قليلا! - إستادنا إنت تؤمر , وين تريد تروح؟ - إستادنا إبّلاش إنوصلك! - يا عزيزي دعني أبحث عن صاحبي! - صار عيني ... صار لا تزعل! .............. وفي خضم هذا العراك أنقذني صاحبي , فاستكانوا وابتعدوا , فوضعنا الحقائب في سيارته , ومضينا إلى حيث نرى العراق! |