هناك جدل لازال قائما حول الخيار الفدرالي في العراق و المنصوص عليه في ( المادة 1 ) من الدستور . و تبنى الدستور تفاصيل هذا الخيار في ( الباب الرابع و الباب الخامس ) منه .
و تعد الفدرالية شكلا من اشكال الدول المركبة , و شكلا من اشكال الحكم اللامركزي و الذي تكون السلطات موزعة بين حكومة اتحادية و حكومات محلية ( اقاليم أو ولايات ) . و يكون كلا المستويين المذكورين من الحكومة متكامل مع الاخر و يتقاسم السلطة السياسية معه . و تعد حكومات الاقاليم أو الولايات وحدات دستورية لكل منها نظامها الاساسي ( دستور محلي ) الذي يحدد تفاصيل سلطاتها التشريعية و التنفيذية و القضائية على ان توضع الحدود العامة لتلك السلطات في دستور الدولة الاتحادي بحيث لا يمكن سحب تلك السلطات بقرار احادي من الحكومة الاتحادية .
لقد اصبح الحكم الفدرالي واحدا من اوسع النماذج المنتشرة على وجه البسيطة . و يعد نموذج الامارات العربية المتحدة النموذج الابرز على المستوى العربي , و نموذج الولايات المتحدة الامريكية هو النموذج الابرز على المستوى الدولي .
و رغم ان الفدرالية ليست خيارا ابتدائيا مفضلا في نشوء الدول , بسبب التعقيدات التي تتسم بها , بيد انها قد تكون حلا توفيقيا اضطراريا لدولة لا تستطيع ان تحافظ على وحدتها الاندماجية البسيطة من جهة , و لا تريد مكوناتها الاجتماعية التفريط بعقد الدولة و وحدتها من جهة اخرى .
و يبدو ان الدولة العراقية قد وصلت الى هذا المفترق السياسي . و من هذه الزاوية فقط يصبح الخيار الفدرالي حلا قابلا للنقاش ضمن اطار حوار وطني شامل . خصوصا بعد ان تصاعدت نزعات الانفصال القومي لدى الكرد , و تحول الصراع في العراق من صراع سياسي على السلطة و النفوذ الى صراع بين المكونات .
مع ذلك كله , فالمسألة حمالة اوجه , فدعاتها يركزون على مزايا الفدرالية , و مناوئوها يركزون على عيوبها . و من الضروري ان نطرح كلا الوجهين بشفافية ليتسنى للشعب العراقي حسن الاختيار .
اولا : مزايا الفدرالية : -
1 – يعمل هذا النوع من الاتحاد على تأسيس دولة كبيرة ذات امكانات ضخمة قادرة على الدفاع عن نفسها بشكل افضل .
2 – ان هذا النوع من الاتحاد يجمع بين عاطفتي الاستقلال و الاتحاد معا , اي انه يوفق بين مزايا الوحدة الوطنية من جهة , و الاستقلال الذاتي من جهة اخرى .
3 – يهيئ هذا النوع من الاتحاد امكانية طرح انظمة دستورية متنوعة , الامر الذي يسمح للولايات التي تواجه تعثرا في نظامها السياسي المحلي ان تقتبس من انظمة الولايات الاخرى التي ثبت نجاحها .
ثانيا : عيوب الفدرالية : -
1 – ان تعدد الهيئات و ازدواج السلطات يستلزم نفقات مالية باهظة سيتحملها في نهاية الامر المواطن عن طريق الضرائب أو تقليص النفقات العامة او تدني الاجور و الرواتب .
2 – كثيرا ما يسبب الازدواج التنفيذي أو التشريعي الى حدوث مشاكل بين الولايات الداخلة في الاتحاد أو بينها و بين دولة الاتحاد , و قد يصل الامر الى ولادة مشاكل ذات طابع خارجي للدولة الاتحادية .
3 – قد يؤدي هذا النوع من الاتحاد الى تفتيت وحدة الدولة اذا قويت سلطات الولايات على حساب سلطة الدولة الاتحادية .
مع ذلك اعتمد الدستور العراقي على فدرالية هشة , دون دراسة معمقة , فهي لا تمهد للاتحاد الفاعل بين مكونات العراق الاساسية بقدر ما تمهد للانفصال حال توفر الظرف الدولي المناسب .
ان هذه الفلسفة غذتها المدركات الاتية :
1 – ثقافة الجبل الآمن لدى المكون الكردي الذي كان يلوذ به كلما تعرض للاضطهاد من الحكومة المركزية في بغداد . فضلا عن الثقافة القومية الكردية المتنامية و التي تطمح الى انشاء الدولة الكردية المستقلة .
2 – ثقافة الخوف من الماضي و المستقبل لدى القوى السياسية الشيعية , التي ادركت الماضي على انه سنوات من الاضطهاد و التهميش , و ادركت المستقبل على انه قد يعيد الماضي مرة اخرى . لذلك بدأت تبحث عن ملاذ امن اذا ما عاد الماضي من جديد . و قد وجدت هذا الملاذ في الفدرالية الهشة لأنها قد تكون مدخلا للتقوقع على الذات في اسوأ الاحتمالات .
عليه , جاءت نصوص الدستور العراقي لتؤسس فدرالية هشة قد تمهد لأنشاء دويلات فئوية عندما يحين الظرف الدولي المناسب . ان معالم الهشاشة هذه تبدو واضحة في اكثر من نص دستوري , منها :
1 – حدد الدستور اختصاصات حصرية للسلطات الاتحادية في ( المادة 110 ) بينما منح اختصاصات مشتركة للإقليم مع اختصاصات السلطات الاتحادية في ( المادة 114 ) . و منح الاقليم اختصاصات مفتوحة في المستجدات كلها في المادة ( 115 ) . و هذا معناه ان سلطات الاقاليم سوف تتسع مع مرور الزمن على حساب السلطات الاتحادية , الامر الذي قد يمهد للانفصال .
2 – في سابقة فريدة من نوعها , منح الدستور لسلطات الاقاليم الحق في تعديل تطبيق القانون الاتحادي في حالة وجود تناقض أو تعارض بين القانون الاتحادي و قانون الاقليم بخصوص مسألة لا تدخل في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية ( المادة 121 ) . و بذلك يصبح قانون الاقليم اعلى مرتبة من القانون الاتحادي . و هذا مخالف للأنظمة الاتحادية .
3 – اجاز الدستور تأسيس مكاتب للأقاليم و المحافظات في السفارات و البعثات الدبلوماسية ( المادة 120 خامسا ) على الرغم من ان السياسة الخارجية تعد اختصاصا حصريا للحكومة الاتحادية حسب المادة ( 110 أولا ) . ان ذلك قد يمهد للحصول على اعتراف دولي لأي اقليم يطمح ان يكون دولة مستقلة .
4 – فضلا عن ذلك , لم يجوز الدستور اجراء اي تعديل على اي مادة من شأنها الانتقاص من صلاحيات الاقاليم الا بموافقة السلطة التشريعية في الاقليم المعني , و بموافقة اغلبية سكانه في استفتاء عام ( المادة 126 رابعا ) . و بذلك حال ذلك النص دون تعديل الخيار الفدرالي لا من حيث المبدأ و لا من حيث التفاصيل .
و بناءا على ما تقدم كله , ينبغي مراجعة الخيار الفدرالي من حيث المبدأ , او مراجعة تفصيلاته ان كان خيارا لا رجعة فيه . ان تلك المراجعة ينبغي ان تهدف الى الحفاظ على الوحدة الوطنية العراقية . و لن يكون ذلك الا اذا اصبحت اختصاصات السلطة الاتحادية اقوى من اختصاصات سلطات الاقاليم . و لن يتحقق ذلك الا اذا شعر المكون الكردي بالأمان ’ و تبدد الخوف من الماضي و المستقبل لدى المكون الشيعي , و شعر المكون السني العربي بالإنصاف و المشاركة الحقيقية في صنع القرار .