ظهرت دعوات كثيرة في مصر ولبنان القرن الماضي من أجل اعتماد اللغة المحكيّة المحليّة والكتابة بالحرف اللاتيني. وكان أبرز الدعاة المفكر الاشتراكي سلامة موسى، الذي تأثر بالإقامة الطويلة في فرنسا وبريطانيا، والشاعر سعيد عقل، الموله بتاريخ فينيقيا وماضيها المزدهر. كلاهما، لعاطفة واحدة ونشأة ثقافية مختلفة، لم يعبأ بالعصور العربية التي صهرت بلديهما. موسى أراد العودة إلى مصر بعلومها القديمة وحضارتها الفرعونية والبعد عن هموم العرب ومشاكلهم، وعقل أراد الغاية نفسها. لم يلق أي منهما تبعية تعتبر. كلاهما بنى على أن الفصحى معقدة وصعبة وكثيرة المتاهات، فلماذا لا نبسّطها باللجوء إلى لغة موازية. وكلاهما ادعى، من دون أي صلة بينهما، أو حتى معرفة متبادلة، أن الإيطاليين والفرنسيين تخلوا عن اللغة اللاتينية وعادوا، مع سواهم، إلى لغتهم الوطنية. وهذا صحيح. وكان دانتي، شاعر إيطاليا، أول من فعل ذلك، لكن الصحيح المقابل أن اللاتينية لم تكن لغة أوروبا المحكية في أي وقت. كانت لغة الكتابة والقراءة، أي لغة الكنيسة. وكانت العلوم أو الدراسات من أجل الكنيسة وحدها طوال زمن. لذلك، عندما زالت سيطرة الكنيسة وانتشرت العلوم الأخرى، لم تحدث للشعوب حالة انفصام بالعودة إلى لغاتها اليومية. العربية كانت لغة الناس في المجامع وفي الشارع وفي الخيام. في الجاهلية وفي الإسلام. وما دخلها من هجائن إنما دخل عامياتها. وإذا أراد المغربي والجزائري التفاهم مع المصري أو العراقي فلا ينفعهما سوى الفصحى وجذورها. فلا هذا يعرف معنى كلمة «خاشوقة» ولا ذاك يعرف كلمة «واخا» أو «ديالي». العربية، خلافًا لسواها، كانت أيضًا لغة الهوية الكبرى. لم يحدث ذلك لأهل اللغات الأخرى. ثار الأميركيون على البريطانيين في حرب الاستقلال على الرغم من أن اللغة واحدة والدين واحد والجذور واحدة. وأول ما طلبته الدول العربية المستقلة هو التعريب. ولا شك أن في المطالبة المحكية غرضية سياسية واضحة أو نزعة عدائية مضمرة. وبعد سلامة موسى أوائل القرن عادت الدعوة إلى «مصر»، والخروج من العروبة في منتصفه أيضًا وفي ذروة الفورة القومية. وكان من أبرز الدعاة يومها الروائي إحسان عبد القدوس. ويحضرني في المناسبة ما كان يرويه رئيس وزراء لبنان الراحل تقي الدين الصلح، عن أن الملك فاروق طلب منه إعطاءه دروسًا في معنى العروبة، وكان يصغي إليه مثل أي تلميذ عادي.
|