يرتسم الإصلاح في ذهني شكلا هندسيا كمثلث، يشكل المتظاهرون احد أضلاعه الثلاثة، والضلع الآخر هو المرجعية الدينية في النجف، اما الضلع الثالث فهو رئيس الوزراء. لقد خرج المتظاهرون بقوة واندفاع حاملين مطالبهم المشروعة، التي لخصوها بثلاث نقاط رئيسة هي : إصلاح النظام السياسي وتخليصه من المحاصصة الطائفية التي هي أس الأزمة وأساس اعوجاج النظام وفشله، والعمل على إعادة بناءه على وفق المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات. والنقطة الثانية هي الموقف الواضح ضد الفساد الذي تمترس في مفاصل الدولة ونخر في مؤسساتها، وضرورة محاسبة الفاسدين والإسراع في تقديمهم للقضاء كي يقول كلمته فيهم، وكي ينطق بكلمة حق عادلة وشجاعة، ما يتطلب إصلاح القضاء وتخليصه من التأثيرات السياسية والطائفية والاثنية، وتعزيز استقلاليته، وعبر جملة من التشريعات والإجراءات السريعة. النقطة الثالثة هي الخدمات التي تمس معيشية وحياة المواطنين. ومن اجل هذه المطالب التي رفعت بوضوح تام عبر الآلاف الشعارات، خرج المتظاهرون في الساحات والشوارع بقوة، ولم يبخلوا بشيء للتعبير سلميا عن حبهم لوطنهم الذي يتطلعون إلى رؤيته آمنا مستقرا ومزدهرا. وصدحت أصواتهم من اجل ذلك، وواصلوا كفاحهم اللاعنفي طوال الأسابيع الماضية بهمة ونشاط وصبر ملفت، ولم يفت في عضدهم ما رافق ذلك من حملات تشويه وضغط وإكراه وتهديد وخطف وقتل.. في اكثر من مكان. اما المرجعية الدينية التي تعد الضلع الثاني في المثلث، فقد كانت واضحة جدا في وقوفها مع المتظاهرين ودعمها لهم بقوة، ولم تتراجع عن ذلك في خطب الجمعة، التي ركزت من خلالها على الخاص والعام في أزمة النظام السياسي وضعف بنيانه، جراء المحاصصة الطائفية والفساد. وطالبت الحكومة بالاستماع الى مطالب المتظاهرين، كما فتحت أبوابها مشرعة لهم ولمطالبهم المشروعة فيما أغلقتها امام المسؤولين، واشرت باستمرار ملفات الفساد وافعال المفسدين المشينة والشنيعة، وقدمت نصحا مخلصا لدعاة الاصلاح، وحذرت من الالتفاف على مطالب المتظاهرين ومحاولات تشويهها او التباطؤ في تنفيذها او التلكؤ في الإصلاح. وفي الوقت الذي يواصل المتظاهرون أنشطتهم من اجل الإصلاح، تدعمهم المرجعية بوضوح وقوة، لم يرتق أداء رئيس الوزراء للأسف إلى مستوى (المعركة) وتحدياتها، وهو يشكل الضلع الثالث للإصلاح. فقد توقف عند إعلان حزمة الاجراءات، دون متابعة تطبيقها بوتيرة تناسب الحركة المطالبة بالاصلاح، وهذا ما اعطى فرصة لرموز المحاصصة والفساد لاتقاط انفاسهم واعادة ترتيب اوراقهم، وتنظيم قواهم. وشكل هذا الضعف صدمة اشرت حقيقة ان الاجراءات التي اعلن عنها، لا تقع ضمن رؤية اصلاح واضحة، ولا تندرج في برنامج اصلاحي شامل، ولا يشملها منهج علمي يحتوي على وحدة قياس. وهذا ما ولد خيبة في شأن قدرة رئيس الوزراء على قيادة حركة الإصلاح، في الاتجاه الصحيح والمنتج. ان الجدية في الإصلاحات تتطلب في ما تتطلب تشكيل فريق عمل مقتنع بالاصلاح الشامل. فريق مقتدر، نزيه، فعال، منفتح على الآخرين، سيما المتظاهرون، وهذا عسير من دون سند من القوى السياسية والمدنية التي لها مصلحة في الاصلاح. فلا يمكن تصور نجاح يتحقق عبر قدرات شخص واحد مهما امتلك هذا الشخص من مؤهلات وقدرات وصلاحيات. ان عملية الإصلاح، بالقراءة الجذرية لها، تتطلب فهما عميقا للازمة وتصورا متينا للخروج منها، و تناسب قوى فعالا يحسم الصراع با تجاه بناء النظام على وفق المواطنة وتخليصه من منظومة المحاصصة والفساد، كي يكون قادرا على دحر الإرهاب والفوضي، وعلى مباشرة البناء والأعمار والتنمية.
|