اكتشاف وسائل الشفاء قد يستغرق قرنًا من الزمان


عند الحديث عن توقعات عموم الناس، ثمة محيط واسع بين الأماني والواقعية في منهجية صياغة نوعية التوقعات وتحديد سقف لها، وهو أوضح ما يكون عند الحديث عن التوقعات التي تنشأ في أذهان عموم الناس بالنسبة لأداء الأوساط الطبية في جوانب معالجة أمراض البشر ووقايتهم منها. وفي جانب أحد أفرع «معالجة الأمراض» هناك توقعات خاصة تتعلق بضرورة اكتشاف الأوساط الطبية وسائل تشفي من الأمراض التي يُعاني منها الكثيرون، سواء منها تلك الأمراض المزمنة أو الأوبئة الميكروبية التي تظهر دون سابق إنذار.
بداية علينا إدراك أن إدارة عملية المعالجة الطبية للمريض، أو لمجموعات من المرضى، هي بالأصل من نوع «إدارة الأزمة»، أي الأزمة الصحية التي ألمّت بإنسان ما نتيجة إصابته بمرض ما في جسمه. ومن أبجديات إدارة الأزمة أن من الضروري وضع مجموعة من الأهداف يكون العمل الطبي ساعيًا إلى الوصول لتحقيقها عبر خطة علاجية واضحة المراحل، وأن يكون ممكنا قياس الوصول إلى تلك الأهداف العلاجية، عبر متابعة حالة المريض بشكل يومي.
وعلى سبيل المثال، قد يكون من أهداف المعالجة الطبية خفض ارتفاع حرارة الجسم أو خفض ارتفاع ضغط الدم أو خفض ارتفاع نسبة سكر الدم أو تخفيف ألم المفاصل أو توسعة مجرى الشريان المسدود في القلب، وهكذا دواليك. وفي هذه الأمور كلها تظل أهداف المعالجة الطبية ضمن إطار «معالجة» تهدف إلى تخفيف أعراض المرض ومضاعفاته، ولا تتطور إلى تحقيق هدف إزالة المرض بالكلية عن جسم المريض، أي «شفاء» المريض، إلاّ في حالات محددة توصلت الأوساط الطبية فيها إلى معرفة وسيلة «شفاء» تزيل مرضًا ما عن مريض ما.
ولذا ليس سرًا أن أمراضًا مهمة، على رأس قائمة الأمراض الأعلى انتشارًا، لم تدخل بعد إلى نادي الأمراض التي تتوفر لدى البشر وسائل للـ«شفاء» منها. ومن الأمراض التي تتوفر لها معالجات فقط أمراض مثل مرض السكري وارتفاع ضغط الدم وأمراض شرايين القلب واضطرابات الكولسترول والتهابات المفاصل الروماتزمية وغيرها كثير وكثير جدًا. وبالمقابل، قليلة هي الأمراض التي تتوفر لها وسائل تشفى المريض منها.
والسؤال الذي يأتي بشكل تلقائي: لماذا؟ لماذا لا تتوفر وسائل تشفي من الأمراض الأعلى انتشارًا؟ أو بعبارة أخرى يُمكن أن يُصاغ السؤال بالطريقة التالية: بشكل تقريبي، ومما تمت ملاحظته بواقعية مدروسة خلال القرون الماضية من الجهود الطبية، ما هو متوسط المدة الزمنية اللازمة للوصول إلى وسيلة «تشفي» من مرض ما، وما هو حجم التكلفة وحجم المشاركين في الوصول إلى ذلك؟
وضمن عدد 24 سبتمبر (أيلول) من مجلة الخلية « Journal Cell»، نشر الباحثون من مؤسسة غلادستون العلمية بسان فرانسيسكو، نتائج متابعتهم تطور وكلفة اكتشاف وسائل لشفاء الأمراض، وهي بعنوان «من الاكتشاف العلمي إلى الشفاء: نجوم ساطعة في مجرة»، وقالوا في مقدمتهم إنهم عملوا على استخراج البيانات التي تفيدنا لمعرفة وتقدير حجم تكلفة مراحل الاكتشافات العلمية وتطبيقاتها في التطورات الطبية التي أدت إلى وضع وسائل تشفي من الأمراض، وهي منهجية بحثية تساعد في رفع فهم عموم الناس للأمر وزيادة الدعم الحكومي لما يتطلب إجراء أبحاث علوم الحياة، مما قد يُعزز عملية اتخاذ القرار للوصول إلى اكتشاف وسائل تشفي من الأمراض. وقال الدكتور ساندرز ويليم، رئيس المؤسسة البحثية المذكورة والباحث الرئيس في الدراسة: «وضحنا في دراستنا التحليلية أن اكتشاف علاج جديد يعتمد على طيف واسع من المعرفة العلمية زائد مساهمات استثنائية من مجموعة من الباحثين المتميزين» أي إسهامات تتسم بالعبقرية. وأضاف أنه «بالنسبة لأي شخص يُعاني من مرض ما فإن الحلم هو تحقيق الشفاء، ولكن الشفاء الحقيقي من الأمراض يظل حتى اليوم أمرا نادرًا». وخلال الدراسة تتبعنا مسارات العلماء للوصول إلى علاجين حديثين مُصنفين بأنهما يُوفران «الشفاء» من أمراض محددة.
والعلاجان هما عقار «إبيليميماب (Ipilimumab)» لأحد الأمراض السرطانية وعقار «إفاكافتور (Ivacaftor)» لعلاج التكيس «الليفي (Cystic Fibrosis)». وبتتبع مراحل توصل البشر خطوة بخطوة إلى العلاج الأول وجد الباحثون أنه تطلب مشاركة أكثر من 7 آلاف باحث في نحو 5700 مؤسسة علمية خلال مدة تفوق 100 عام. وبالنسبة للعلاج الثاني للتكيس فإنه تطلب مشاركة نحو 3 آلاف باحث من نحو 2500 مؤسسة علمية خلال مدة زمنية تبلغ 60 سنة. وقال الباحثون إن «الجملة التي علينا أن نضع تحتها خطا»، هي أن توصل البشر إلى علاج يشفي من مرض مما يتطلب تضافر مساهمات شبكة واسعة، قد يستغرب الكثيرون حجمها ومدى تعقيدها، من الجهود العلمية لمجموعة كبيرة من الباحثين في أماكن شتى من العالم، وأن هدفهم التوصل إلى وسائل تختصر تلك المدة الزمنية الطويلة.