الناس وراء القناع.. ما خفي قد يكون أعظم


أعجب الحاج حسين صبيح بدماثة خلق صاحب معرض بيع السيارات قبل أن يعجب بسيارة الـ(بيك آب) التي عقد العزم على شرائها، بل تمنى في قرارة نفسه أن يحظى بصداقته طوال العمر، فقد كان صاحب المعرض يبدو أكثر حرصا عليه من نفسه، وبدا انه لا يفكر بجني الأرباح بقدر ما يسعى لخدمة الآخرين عبر تقديم ما هو أفضل، وبما يحقق الخير والمنفعة للطرفين «البائع والمشتري».
كما لمح صاحب المعرض، بصورة غير مباشرة، ومن خلال قصص رواها، ومواقف مرَّ بها، سعة صدره واستعداده لحل أية إشكالات قد تقع بعد البيع، وكان الرجل شفافا وصريحا إلى درجة انه أوضح للحاج صبيح بعض عيوب السيارة، ثم قام بحساب كلفة تصليحها وأسقطها من السعر الكلي للسيارة، وعلاوة على ذلك، فقد شرح بالتفصيل الممل أين يقع منزله، كي يزوره الحاج في حال لم يجده في المعرض. وفي الختام أعطى صاحب المعرض للحاج صبيح مهلة يوم واحد يمكنه فيه إعادة السيارة وفسخ عقد البيع والشراء في حالة عدم رغبته بالسيارة، وتراجع حماسه لشرائها، لأي سبب كان، وجيها أو غير وجيه. لكن كل تلك الصفات الطيبة والمحببة التي ظهر بها صاحب المعرض، وكذلك الضمانات التي قدمها لم تكن سوى قناع تخفى وراءه ليخدع به الحاج الطيب، ويستحوذ على ماله مقابل سيارة كثيرة الأعطال والمشاكل.
ويقول الحاج صبيح، وهو رجل خمسيني، وعلى وجهه تلوح علامات الندم والأسف: «كانت صدمة بالنسبة لي لن أنساها طوال حياتي، فقد ظهر صاحب المعرض بغير الصورة التي شاهدتها، فقد اختفت ملامح الطيبة عن وجهه وتحول صوته الرقيق إلى صوت خشن ومتعجرف، وغابت عباراته اللطيفة لتحل معها عبارات قاسية، وحاول بكل صورة رفض تسلم السيارة مني وإرجاع نقودي مهددا ومتوعدا».

المفاجأة الأولى

ويضيف صبيح الذي يملك محال كبيرة للتسوق المنزلي: «كانت المفاجأة الأولى التي زرعت الشك في نفسي ان السيارة كانت قد تعرضت لانقلاب، وعلى الرغم من الدقة التي تم إصلاحها بها، إلا ان ذلك لم ينطل على أحد أصدقائي الخبراء بالسيارات، ثم تبين بعد ذلك ان الكثير من أجزائها قد تم استبداله، بينما أقسم صاحب المعرض على أنها «ستندر وعل بلاد»، ولهذا أسرعت بإعادتها، لكن صاحب المعرض تنصل عن كل تعهداته، وبدلا من النقاش والتفاهم اتهمني بأنني أهنته لأن إعادتي للسيارة تعني انه كاذب ومحتال حسب فهمه».
(لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا) اختصر السيد عماد الموسوي الأستاذ في الحوزة العلمية إجابته بهذه الآية الكريمة عن سقوط الأقنعة وما تضمره النفوس. ويشير الموسوي الى أن الإنسان عندما يريد أن يعطي لنفسه شخصية ووجاهة اجتماعية، فإن ذلك يعود في الحقيقة إلى عقد في نفسه وتعبير عن نقص يتنامى في شخصيته، وبدلا من معالجة ذلك تراه يصنع لنفسه أوهاما ومبررات واهية، بل هي أوهى من بيت العنكبوت، فتجد من يتحدث كثيرا عن الدين وهو في سلوكه أبعد عن ذلك.
ويضيف الموسوي: ان هناك مثلا مصريا يقول (عندما انظر الى كلامك يعجبني ولكن عندما أرى فعالك استغرب منها)، وهذه الأمراض التي نراها في ازدواجية الشخص حذرنا منها الدين وحتى المجتمع كما في قوله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ).

أقنعة مختلفة

ويرى موقع (theunboundedspirit.com) في مقال له خصصه لأبرز عشرين قناعا شعبيا يرتديها الناس، ان الكثير من الصفات الأخلاقية التي يبديها الناس قد تكون غير حقيقية، بل وقد تخفي نقيضها بالضبط، وهذا متأت من تطور قدرة البشر على إخفاء نوازعهم ودوافعهم الحقيقية، لا سيما إذا كان الإعلان عن تلك النوازع يسبب لهم الخجل أو الشعور بالعار في محيطهم الاجتماعي. وارتداء الأقنعة مهما كان نوعها هو محاولة للتضليل والخداع لتحقيق الأهداف بيسر وسهولة.
وتساعد الأقنعة المخادعين على الاندماج والولوج إلى قلوب ضحاياهم، وكذلك على إسقاط دفاعات أهدافهم عبر إشعارهم بالأمن والاطمئنان، وارتداء الأقنعة في الحقيقة هو آلية دفاعية نفسية مصممة لغرض وحيد هو تخفيف مهمة البقاء على قيد الحياة، وللحصول على قبول أكثر، وتمنح مرتديها الغطاء اللازم لتيسير سبل العيش في الحياة، ولو بطرق غير أخلاقية.
ويشرح المقال أبرز عشرين قناعا اجتماعيا تعود أغلب الناس على ارتدائها وكيفية التعامل مع أصحابها، وقد يرتدي بعض الناس أكثر من قناع لزيادة التمويه على ما يخفونه من نوايا معاكسة لما يظهرون عليه.
ومثلما ينتحل أحدهم صفة ضابط، أو يدعي انه مسؤول أمني، أو ان بيده ملف التعيينات في دائرة رسمية، أو ان لديه تأثيرا أو علاقة قوية بمراكز نفوذ معينة، ينتحل آخرون صفات محببة كالنبل والتقوى، أو الفقر والزهد، أو الجرأة والشجاعة، وغيرها، ويبقون متخفين حتى يسقط حادث أو موقف الأقنعة عن وجوههم.
وعلى مستوى الثقافة الشعبية نجد الكثير من التوصيفات التي حاولت تقدير الناس عبر ملامح وجوههم، فيقال: (وجهه ما يكصه الطبر) عن الشخص العابس الوجه والسريع الغضب، و(وجهه أصفر مثل الكركم) عن الشخص المليء بالخبث والحقد، و(سود الله وجهه) لمن ارتكب فعلا شائنا، و(وجه الفقر) لمن لا تؤاتيه الفرص ولا يتمتع بحظ سعيد، و(وجهه جينكو) للخالي من المشاعر الإنسانية، و(وجهه ما بيه قطرة نور) للشرير ومرتكب الأفعال السيئة، و(وجهه ما بيه كل رحمة) لمن كان منعدم الشفقة والرحمة.

المواقف الصعبة

ليس الحاج صبيح الشخص الوحيد الذي تفاجأ من حقيقة صاحب المعرض، فقد أصيب سلام بالفزع الى حد انقطعت فيه أنفاسه وبدأ يرتعد من شدة الذهول وهو يرى جارهم (س) يخلع قناع الهدوء والإنسانية، ليصرخ بكلمات غدت حواجز تحول دون أي تفاهم، فتعامله مع أولاده الصغار لا يمت بصلة إلى وجهه السمح الذي يظهره، ويقول سلام أو أبو أحمد كما يكنى في منطقة سكناه: لم أستطع استيعاب ما جرى، فالحياة مسرح كبير تسقط فيه الأقنعة في المواقف الصعبة لتظهر حقيقة ما تضمره النفوس ومدى رقتها أو بشاعتها، فتوضح سلوك البشر في علاقاتهم الاجتماعية والإنسانية مع بعضهم البعض، فالصمت عندما يسود وسط الدار يعني بأن هناك حربا صامتة ومع مرور الوقت ستنفجر خفاياها كما حدث مع جارنا (س).
ويقول الدكتور محمد عبد الحسن الأستاذ في علم الاجتماع: إن لكل إنسان ثلاثة وجوه، الأول يتعامل به مع نفسه وهو المعبر عن حقيقته، والثاني يتعامل به مع المقربين منه كأفراد أسرته، والثالث هو الوجه الذي يتعامل به الفرد مع محيطه الاجتماعي، وكل وجه من هذه الوجوه هو حاصل تفاعل عوامل متعددة ذاتية وموضوعية، كتكوين الفرد النفسي والجسدي، والتربية والتنشئة الاجتماعية التي حصل عليها المستوى الثقافي أو العلمي للفرد، إضافة إلى طبيعة الخبرات والتجارب الحياتية التي مر بها هذا الفرد وميزته بمميزات وخصائص سلوكية جعلته يتعامل ويتصرف مع محيطه الاجتماعي بماهية وكيفية تؤهله لتوصيف اجتماعي ينم عن المقبولية أو الرفض في الوسط المجتمعي ولعل كل هذه التوصيفات تحاول ان توصف أفعال الإنسان أو ردود أفعاله أو توصف حالة من الحالات التي يتسم بها هذا الفرد دون سواه.

للبيوت أسرار

ويضيف أبو أحمد والأسى يحز في نفسه: «كل ما أتذكره في ذلك اليوم هو ان زوجة (س) دخلت منزلنا منخرطة في بكاء مرير تقطعه شهقات الاستنجاد لإنقاذ ولدها من براثن والده الغاضب، وعندها حاولنا التدخل وكبح جماح غضب الأب، تصاعد غضبه أكثر فقد تحول إلى شخص آخر، وكأنه أصيب بصاعقة أزاحت طلاء وجهه المزيف، وبدأت عباراته تتخللها الإهانات والعبارات الجارحة والمهينة وكانت تلك الإهانات المحطة الأولى التي قطعها قطار الخلاف نحو إنهاء العلاقات الإنسانية إلى الأبد».
ويوضح ابو احمد متدفقا في الكلام: «ولأن لا أحد يعلم ما يقبع خلف قضبان تلك الأبواب المغلقة التي تعري وجوه أصحابها، هذه الوجوه مثلنا في المظهر ولكنهم في الحقيقة ذئاب متنكرة بشكل البشر فقد يرتدي أحدهم قناع الإيمان وهو بعيد عنه، وهناك من يرتدي قناع المحبة وفي قلبه يضمر الحقد والكراهية، وهناك من يرتدي قناع الشجاعة وهو ضعيف ومنعدم الشخصية».
ويقول الموسوي: يعد مصطلح ازدواجية الشخصية، من المفاهيم التي راج تداولها بعد استخدام الدكتور علي الوردي لها في كتاباته عن المجتمع العراقي؛ أي ان الفرد قد يتبنى الشيء وضده أو نقيضه في الوقت نفسه، ففي الوقت الذي يدين ويعارض الفساد والرشوة، تجده يأخذ الرشوة ويتعامل بها، وبملخص مفيد ينطبق على هؤلاء المثل العامي (من جانبنا شديد العقاب ومن جانبه رؤف رحيم) او كما يقال: (يعلم أولاده على الصلاة وهو لا يصلي..) ويظهر ان هذه الازدواجية في الشخصية..
جاءت كرد فعل طبيعي على تاريخ مليء بالإقصاء ومصادرة الحريات وتفشي سياسة الإكراه، ما ولد في المجتمع ثقافة تظهر غير ما تخفي وتخفي غير ما تظهر، تحت ضغوط معينة.
ويختتم ابو أحمد حديثه: «هذا الحادث جعلني أعيد النظر بالكثير من قناعاتي الخاصة، وصرت أكثر توقعا للسوء مع الأسف، وبت أصدق كل ما يقال عن تغير الناس من حال إلى حال بعد سقوط الأقنعة المزيفة التي يرتدونها».