على مستوى اسكندنافيا والعالم ترى من أشهر من الرحالة وعالم الانثربولوجيا النرويجي ثور هايردال؟! لذلك الرجل الفذ متحف خاص به في العاصمة النرويجية أوسلو، وله زائرون من مختلف أنحاء العالم.. في ذلك المتحف هياكل تحاكي القوارب التي صنعها في بقاع مختلفة من الأرض من أجل أن يثبت قناعاته على أرض الواقع، فيه القوارب التي قطع فيها الكاريبي وفيه أيضا التي قطع بها البحر الأبيض المتوسط ومن تلك الهياكل أيضا قارب "دجلة" الذي صنعه العام 1977 وقطع فيه المحيط الهندي من أجل أن يثبت بأن السومريين كانوا على تواصل مع الحضارتين الهندية والفرعونية عن طريق البحر، وكانوا قادرين على توجيه قواربهم رغم بساطة امكاناتها.
جنون الرجل وثقته المفرطة بالسومريين وقدراتهم قادته إلى مغامرة مجنونة قضى فيها أربعة أشهر ونصف الشهر في البحر بين المحيط الهندي ومنطقة الخليج. كما أن طاقم القارب الذين تم اختيارهم بدقة استثنائية كانوا على درجة كبيرة من الأهمية، فبينهم من خاض تجربة الفضاء، وبينهم من كان مندوبا لمجلة ناشيونال جغرافك الشهيرة، وبينهم من كان متخصصا في التصوير تحت الماء وغيرهم. أهمية التجربة قادتني للبحث عن العراقي الوحيد الذي كان على متن القارب دجلة، وأجريت معه في وقت سابق حوارا شيقا تحدث فيه باسهاب لـ"العالم" عن الكثير من التفاصيل المثيرة للاعجاب والاستغراب. التجربة ذاتها دفعتني كي أقطع ألفي كلم قادما من قارة أخرى من أجل الوقوف على مكان بناء القارب دجلة، القصة مشهورة على مستوى العالم لكنها مجهولة على الصعيد المحلي لأسباب كثيرة، وهذا ما دفعني للبحث عن مكان القارب بالتحديد. في تجوالي عن ذلك المكان تجولت بين البصرة والقرنة ثم المدينة وقرى الترابة وأم الشويج سائلا هذا وذاك حتى عثرت على ظالتي بعد سيل من الأسئلة والمقارنات. لقد اختار هايردال موقعه بالقرب من ملتقى دجلة والفرات في مدينة القرنة على يسار موقع "شجرة آدم" في الشاطئ المقابل لمنطقة "المزيرعة". وجلب له القصب والبردي من أهوار "الامارة" لمنطقة أم الشويج والترابة قبل أن تتحول تلك القرى والمناطق القريبة منها إلى مناطق مغلقة للصناعات النفطية. وصلت المكان المقصود الذي لم يترك له أثر على الاطلاق! لقد تحول الشاطئ برمته إلى متنزه وميّزت فقط شجرة آدم بشيء من الخصوصية. أما ما عداها فتركته الجهات المعنية إلى حافة النسيان. لم ألحظ لافتة تشير إلى المكان ولا أثر يذكر بالجهود الجبارة التي قام بها هايردال ولا حتى مجسم يخلد تلك المغامرة.
العتب كل العتب ليس فقط على الجهات الرسمية في مدينة مثل القرنة التي لم تستثمر حدثا تاريخيا كتلك المغامرة يرجح من كفتها أمام نظيراتها من المدن المجاورة بل ان جامعة البصرة تتحمل الجزء الأكبر من ذلك الاهمال الذي لاقته رحلة هايردال، ألم يفكر القائمون على ذلك الصرح العلمي تسيير رحلات علمية وترفيهية إلى تلك المنطقة التي تدخل في صميم اهتماماتها العلمية؟! ألم يخطر ببالهم تعليم النشأ الجديد حدثا مهما كمغامرة هايردال ما يدفعهم إلى تحديد المكان بشكل دقيق؟! أليس من الأفضل أن تقول الجهات العلمية والرسمية كلمتها وتترك ولو بصمة متواضعة تشير إلى ذلك الحدث؟!
هناك فرق علمية وجهات معنية بتوثيق مغامرات من هذا القبيل يمكن أن تقصد ذلك المكان في يوم من الأيام.. أليس من المخجل بحقنا جميعا حينما يصطدم القاصدون إليه بما شاهدته أنا وغيري من المتتبعين لخيوط تلك القصة؟! لذلك.. عذرا منك يا هايردال.