أخص بهذا الحديث اليتيم، ليس على سبيل الحصر كما هو واضح، بل على سبيل الاهتمام الأكثر عناية، ولكن لماذا؟
السبب يعود إلى جسد اليتيم ذاته، فإن هذا الجسد عار من الداخل، حتى لو تستر بأغلى وأحسن وأليق الثياب الخارجية، إنه عار من الحنان! سواء كان يتيما بالمعنى الكامل ـ والكامل هنا تعبير معادِل تماما للناقص ـ أو يتيم بالمعنى الأحادي.
هذا الحرمان الداخلي، العري الداخلي، قد يدفعه باتجاه جسده بشكل مثير، أي يتحول جسده إلى معبوده، يحاول أن يتحسسه ويتلمسه حنانا، يشغف به، تعويضا عن ذلك الحرمان، يمده بالحنان ويستمد منه الحنان، فتتشكل علاقة مريبة بينه وجسده، ربما تتطور إلى حالة مرضية غير محمودة. هذا الحرمان الداخلي، العري الداخلي، قد يدفعه للالتصاق بمَن يجد فيه تعويضا، يفتش عن حاضن، مغذ، يغذيه بالحنان المفقود، والله وحده يعلم فيما لو كان هذا الحاضن غير سليم الطوية، ولا نظيف الضمير، هذا الحاضن قد يكون المعلم أو المعلمة أو صاحب الحانوت القريب أو صاحب محل الدراجات الهوائية أو مدربا رياضيا أو رجل دين، أيّا كان، إن جسد اليتيم عرضة لمثل هذه الصدفة التي لها مناشؤها الواقعية التي تكون أحيانا مفروضة بشكل وآخر. إن التصاق اليتيم بالمعوِّض هذا قد يكون التصاقا غير طبيعي من جانب اليتيم نفسه، يكون هناك ما يشبه العشق، الوله، الذوبان، وهو أمر غير طبيعي أو لنقل هو أمر غير محمود العاقبة على المدى البعيد على أقل تقدير، ومثل هذه الحالة ربما نصادفها مع غير اليتيم، خاصة في مرحلة المتوسطة، أي ما بين التعليم الابتدائي والتعليم الثانوي، ولكنها بالنسبة لليتيم تتأكد وتتعزز أكثر وأكثر بسبب اليتم، بسبب العري من الداخل. إن افتقاد الحنان قد يولد لدى اليتيم حالة من الخنوع والخضوع والتذلل لنماذج معينة من أصدقائه في المدرسة، خاصة من ذوي اليسار المادي ـ ليس اليسار الفكري الذي أنتمي إليه بحلة إسلامية علوية حسينية ــ وبالتالي هو جسد معرض لحالة مرعبة من الاستلاب الذاتي، من الحضور الايجابي، ومثل هذا الاستلاب لا يبعد احتمال الانحراف الجنسي، السقوط في هذا المستنقع. وبقدر ما يمكن أن يدفعه العري الداخلي إلى الالتصاق بجسده؛ قد يكون هناك العكس، أي اهمال الجسد، رميه في سلة المهملات، فهو جسد منكود أصلا، فلا مجال لترميم، لا مجال للتكوين والتأسيس الجسدي المتألق، الناشط، الواثق من نفسه، ينتظره رواد الرصيف القذر. لقد قرأت كثيرا في الأدب الديني، الخطاب الديني، عن ضرورة الاهتمام باليتيم، جوهر الاهتمام هو (العطف، الشفقة، الاحسان..) وليس الخلق والتكوين والتأسيس، وهذا يُشعر أن جسد اليتيم موضوع (الفضلة) في هذا الخطاب، فهو يقارب شبه الجملة في الجملة العربية التامة، وربما مفردة (خطي) تشكل الناظم أو الخيط الناظم لمجموعة القيم التي يتعامل بها الناس مع اليتيم، إنه جسد لاختبار عواطفنا، وليس جسدا لاختبار إنسانيتنا، جسد للتجربة، وما يطرحه هذا الخطاب من أجر وثواب يترتب على رعاية اليتيم يترجم هذه الحقيقة المرّة.
كان الرسول الكريم يوصي باليتيم جسدا يجب أن يُعاد ترميمه، وليس جسدا نرمم أجسادنا / أرواحنا من خلاله. عندما يكون جسد اليتيم موضوع عطفنا نكون قد تسلطنا عليه، وفيما لو كان جسد اليتيم موضوع تأسيس يليق بالجسد من حيث هو جسد، لا يعني اهمال العاطفة بطبيعة الحال، فهي ركن أساس في منهج الاسلام في التعامل مع هذا الجسد المنكود، ولكن ينبغي أن تكون عاطفة ذكية، عاطفة مشفوعة بالعمل الجاد لإعادة ترميم الجسد الفاقد للحنان، إعادته إلى كينونته الأولى، إنسان، وليس موضوع محاضرة تحث على العطف عليه على سبيل المثال.
هل جسد اليتيم العراقي إلا هذه المحنة المروعة؟ كم أنتم قساة يا رعاة العملية السياسية في العراق الجريح؟