على أحد جانبي الطرق السريعة ببغداد، يقف أبو عمر كما أراد أن نطلق عليه أمام منزله المؤلف من خيمة بالية وهو يتأمل السيارات الحديثة التي تمر بجانبه ومن أمامه، تصحبه زوجته الأربعيـنيـة. وفــي داخل خيمته المكونة من بعض الأغطية والشراشف القديمة التي قام بنصبها قبل أسابيع على أحد أرصفة الشارع، وعلى أريكـــــــة قديمــــة، يجــــــــلس الرجل الأربعيني الملتحـــــي واضعا يده على خـــــــده متأملا من حوله السيارات الحديثـــــــــــة المختلفة الأنواع، والمـــــــارة ذوي النظرات الفضوليـــــــــة وهم يرمقونـــــــــــــــــه وزوجتــــــــــه بنظــــرات التعجب والاستــــــغـــــــــراب واحيانـــــــا الشفــــــــقـــــــة، وكانـــــــــت التجاوزات على أمـــــــلاك وأراضي الدولة قــــــــد انتشرت وباتت ظاهـــــــــرة سائدة بعد سقـــــــــــــــوط النظـــــــــام المبــــــاد فــــــــــــــي العام 2003، إذ اتخـــــذت العشرات مـــــــــــــن العائلات تلك الأراضـــــــــي بيوتا تسكن فيها لعدم توفر البديل الآمن.
علما أن هذه البيوت مبنية بطريقة خاطئة ولا تتوفر فيها مقومات الحياة الصحيحة، كما أن الكثير منها كان مقرات لمؤسسات الدولة ودوائرها الرسمية، وبعد ان تعرضت البلاد ايضا الى العنف الطائفي تركت الكثير من العائلات منازلها ولم تجد مأوى لها سوى بعض البيوت المصنوعة من الصفيح لتقاسي حرارة الصيف الحارقة وقسوة برد الشتاء.

خلافات عائلية

ويقول أبو عمر: انه انتقل الى هذا المكان منذ أسابيع، بعد أن كان يسكن في أحد بيوت منطقة السفينة بالأعظمية بمنزل والده، حيث قضى عمره في تلك المنطقة، إذ كبر وعمل وتزوج منها ولكن كانت هناك ظروف أقوى منه أجبرته على ترك منزل الأسرة واتخاذ هذه الخيمة القديمة ذات الروائح الغريبة ملاذا آمنا له ولزوجته، وعلى مسافة قريبة من الخيمة وجدت العائلة صنبورا من الماء أغناها وساعدها على قضاء حاجياتها الشخصية وغسل الأواني وإعداد الطعام دون أن يضطروا الى الذهاب والابتعاد مسافات طويلة بحثا عن الماء، ويقوم الزوجان أحيانا بالاستحمام بهذا الماء وهما يرتديان ثيابهما بالكامل.
اتخذ الزوجان من بعض الدواجن أنيسا لهما، إذ تلعب خارج الخيمة دجاجتان وبطة وقطة صغيرة على مهل بالقرب من أدوات الطهي التي وضعت على الأرض، وهي عبارة عن أوان صغيرة وقدور فارغة وبعض الخضراوات، ويبدو ان العائلة تستغل ما تنتجه هذه الدواجن من بيض لتصنع منها فطورا أو غداءً لها.
ويتحدث أبو عمر بحسرة وألم، محدقا بكل ما يحيط به وهو يحاول أن يرتب بعض الحاجيات التي تناثرت في خيمته الحارة قائلا: «اضطررت الى ترك منزل والدي لتعرضي الى ظروف قاهرة وهربا من بعض الأشخاص والمشاكل العائلية، حتى اني تركت زوجتي لدى بعض المعارف لفترة طويلة ثم عدت إليها وطلبت منها أن تسكن وإياي في هذا المكان».
ويبتسم بثقل ومرارة ويشير الى مكان ما في رأسه يبدو عليه كأنه حفر مؤخرا، استيقظت في أحد الأيام لأجد رأسي محفورا والدماء تسيل منه، ولا أعلم ما هو الدافع أو من الذي قام بهذا الفعل المشين.
وازدادت حوادث القتل والخطف والاعتداء بعد العام 2003، نتيجة الانفلات الأمني الذي عم أغلب المناطق بسبب غياب السلطة والقانون ثم ما لبث ان عم الاستقرار من جديد بعد أن فرضت القوات الأمنية سلطتها، على الرغم من أن هناك قوانين وتشريعات كثيرة أوجدها الحاكم المدني بول بريمر في العراق ما زالت حتى الآن سارية المفعول في حين يجب استبدالها بأخرى أكثر دقة وصلاحية ومناسبة للبلاد.

العزلة عن الناس

ولم يجد أبو عمر، بحسب قوله، حلا آخر سوى هذه الخيمة، فاختار العزلة والابتعاد عن الناس والاخوة والأقارب، إذ لم يعد للتسامح مكان بينهم وصار كل منهما يريد قتل الآخر أو التسبب بالأذية والمصائب له وهو يستشهد ببعض الأحاديث النبوية والآيات القرآنية والروايات الإنسانية، إذ يبدو انه من من محبي القراءة والتعلم، على الرغم من أنه لم يكمل الصف السادس الابتدائي، إذ ترك مقاعد الدراسة في حينها ولجأ الى العمل، وبرأيه فإن الشهادة الجامعية لم تعد مقياسا أو دليلا على وعي الشخص وثقافته فهناك الكثير من حملتها يفتقرون الى الأخلاق والاحترام وكيفية التعامل مع الآخر وتقبل اختلافه.
وألمحت زوجته التي كانت تعمل سابقا موظفة بوزارة الصحة الى أن السبب الرئيس لهذه المأساة التي يعيشونها، هي شقيقة أبي عمر التي تزوجت رجلا يعمل مسؤولا في الدولة، وكان يسعى الى أذية زوجها وأذيتها بكل الطرق حتى انهم عرضوا على زوجها أن ينفصل عنها بحجة انها من التبعية الايرانية ولأنها يتيمة الأبوين ولديها شقيق واحد لم تتصل به منذ مدة طويلة ولم يسأل عنها او يتواصل معها، فلم يكن لها معين سوى زوجها لذلك تمسكت به وقررت أن تعيش معه في أي مكان يختاره حتى لو كان الشارع، وهي الزوجة الثانية، إذ سبق لأبي عمر أن تزوج وأنجب صبيا انقطعت أخباره عنه منذ ولادته ولا يعلم عنه شيئا، ولم يحاول أن يلتقي به أبدا.
أبو عمر وزوجته لم يغب عن بالهما فصل الشتاء القادم الذي ربما سيحل عليهما وهما ما زالا يفترشان الرصيف، ويؤكد أبو عمر أنه سيغطي خيمته بأكياس النايلون كي تقيهما من البرد والمطر، ولن يؤثر فيهما برد الشتاء القارس.

يد المعونة

وتبدو الخيمة التي يسكنها الزوجان كمنزل صغير، حيث وضعت فيها بعض الأشياء مثل أريكة قديمة وفراش وبعض الوسائد، ومبلغ بسيط من المال وضع تحت وسادة الزوجة إذ قالت: إن بعض المارة احيانا ما يساعدونهم ببعض النقود كي يتمكنوا من شراء قوتهم وبعض الخضراوات ويتدخل ابو عمر قائلا: لم يعد لدي رغبة بالأكل فمن يعيش ظروفي القاهرة كيف يمكنه أن يتناول لقمة واحدة.
وتسترسل زوجته بالحديث مؤكدة أنها سترافق زوجها أينما ذهب وهذا ليس المكان الأول الذي لجؤوا إليه بل كانوا يسكنون في منطقة بوب الشام سابقا فيما يعرف بـ»الحواسم»، الذين وصفتهم بالمرتاحين والمستقرين لأنهم لا يدفعون فلسا واحدا للإيجار أو للدولة، وتضيف: انها اقترحت على زوجها حينها أن يبنوا بيتا صغيرا من البلوك اسوة بجيرانهم في تلك المنطقة، إلا أنه أصر على بنائه من الخشب وهذا ما أدى الى طردهم من تلك المنطقة، إذ على ما يبدو ان من شروط بناء منزل في حواسم بوب الشام ان يكون شبيها بالمنازل الأخرى القريبة منه وحوله وألا يختلف عنها بشيء.
وأوصى المجلس الوطني للإسكان في إحدى جلساته الاستثنائية بضرورة التنسيق مع أمانة بغداد، لمطابقة إحصاء وجرد الوحدات العشوائية ومقارنتها مع واقع الحال ما بين الصور الفضائية للعشوائيات ومع ما منفذ فعليا على الأرض، وايضا القيام بحملة إعلامية لتوعية المواطنين بأخطار العشوائيات الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية والبيئية والمتمثلة في التجاوز على املاك الدولة والأملاك الخاصة.

الهجرة الى الخارج

ولم تغب روح النكتة عن أبي عمر، إذ بعد أن اغرورقت عيناه بالدموع بعد سرده لقصته، قال ساخرا: «أنا أنظر الى كل من يمر بجانبي ويتأملني وأصرخ به «نحن البدو نحن العدو،» وتضحك زوجته مقهقهة عاليا ردا على كلام زوجها».
ويختلف حلم أبي عمر عن الكثيرين الذين اختاروا السكن العشوائي والتجاوز لأنهم لا يمتلكون منزلا يأويهم، وهو يناشد كل من له إمكانية مساعدته بالهجرة والرحيل خارج البلاد، فهو لم يعد يطيق العيش في هذه البلاد التي ضاقت عليه وزوجته، وعلى الرغم من أن خيمته المتهالكة التي تقع في أحد المناطق الحيوية ببغداد، إلا أنها لم تحظ بأي زيارة من قبل أي مسؤول أو جهة حكومية، وهو يؤكد أن هذا لن يغير من طموحه وحلمه بتحقيق رغبته بالرحيل خارج الوطن، والعثور على بقعة آمنة يعيش فيها بسلام مع زوجته، ومن الواضح أن أبا عمر يتابع أخبار الهجرة واللاجئين الذين برأيه قد حصلوا على فرصة كبيرة بالمغادرة والبدء من جديد في مكان بعيد، حتى لو كانت تلك الفرصة خيمة صغيرة وسط جزيرة
نائية.
وتخنق أبا عمر عبرات الحسرة والألم وهو يقول: لقد تعبت من كل شيء ولم أعد قادرا على التحمل، إذ حلت على رأسي مصائب لم تحل على شخص من قبل، ولا أريد سوى الاستقرار والسلام، ولا أريد شيئا من الناس سوى أن يتركوني بحالي أنا وزوجتي.
أبو عمر يناشد الآخرين بالابتعاد عنه وعدم سلبه لأبسط حقوقه، وهو لا يدرك انه هو الآخر أحد المتجاوزين على حقوق المواطنين.