على ما يبدو أن العرب لا يعرفون كيف يفُكر الآمريكان، فطبيعة الادارة الآمريكية للمنطقة بعيدة المدى، ووضع الاستيراتيجيات يكون على اساس عمليات محسوبة، ومقسمة على شكل مراحل، لا تبدو واضحة منذُ بداية التطبيق، ولكنها يمكن أن تتوضح معلمها بعد حين، لم تعد أمريكا تحتاج كثيرا لاستخدام دبلوماسية الحرب الباردة مع الآخرين، وخاصة مع بعض الأطراف الدولية، لاسيما وأنها تمارس سياسة الأمر الواقع من جهة، والإغراء في المصالح السياسية والاقتصادية من جهة أخرى، فمقابل غض الطرف عن السلوك الفرنسي في إفريقيا فأنها تستخدم ورقة اليهود للضغط على ألمانيا، وتصم أذانها عن الشيشان مقابل أن لا تسجل روسيا اعتراضا في مجلس الأمن الدولي عليها، لذلك غلبت على السياسة الدولية قاعدة السكوت المتبادل عن فضائح الدول الكبرى، لما ذكر من سرد لبعض التفاصيل، هو مقدمة لطبيعة العقل السياسي الأمريكي الحاضر في شكل وكارزما المناورة والهجوم مع ميزان القوى العالمية. تخضع المنطقة العربية لمشروع سايكس ـ بيكو جديد بمبادى ومقومات مختلفة عن سابقه متمثلاً بالتقسيم الطوعي والانسيابي المبني على مخططات طويلة الأمد ,وقد استنزفت قدرات وموارد الدول العربية , وخلقت في بيئتها الداخلية حزمة تداعيات وأزمات متسلسلة تدخل ضمن مرتكزات إستراتيجية الأزمة, وخضعت غالبية الدول العربية لفلسفة شد الأطراف وتقطيع الأوصال وعبر مزاوجة القوة الصلبة والناعمة، وتجلت بالتسهيلات العسكرية والتحالفات السياسية المترهلة الغير مكافئة, وكذلك الانصياع لسياسة الإلحاق الأمني والمخابراتي والمجتمعي وقد كان التطبيق على ارض الواقع مع اجتياح العراق وما يسمى الثورات والربيع العربي , ان هذا الوضع القى بظلاله على طبيعة التماسك الاجتماعي وانهيار منظومة الأمن القومي , وكذلك موازين القوى والذي انهار هو الاخر نظرا لافتقار الدول العربية لبوصلة القوة وتوظيفها سياسيا واستراتيجيا , ولعل ابرز التداعيات الخطرة التي تبرز في اللوحة الإستراتيجية العربية هي تقسيم السودان والاطاحة بحكومة القذافي والثورات التونسية والمصرية وما يحدث في سوريا في ظل تدخل الاطراف الاقليمية, بمعنى الانتهاك لسيادة البلدان بحجة دعم المعارضة، والذي اباح الدم العربي السوري، ليس بعيدا عن ذلك ما تقوم به الدولة التركية من دور في المنطقة، بعد ان فقدت الثقة بنفسها وعدم اللحاق بركب الاتحاد الاوربي، وعلمت بأنها لم تكن يوماً جزءً من معاهدة الاتحاد، فتعالت صيحاتًها معتبرةً نفسها هي الاخرى وصياًعلى المنطقة العربية. مشروع التقسيم أو ما يطرح بفكرة بايدن عام 2007 وقضية الأقاليم، لم تكن وليداً حديثا بل إستراتيجية ولدت قبل أكثر من مائة عام في رحم الأجندة الأمريكية البريطانية، بعد أن وجدوا المسوغات التاريخية لتلك الرغبات الرامية بتحقيق ذلك، باعتبار أن العراق أصلا وضعت تركيبته الأولية في طبيعة نشأته عبر التأريخ الوسطي له على أساس ذلك التركيب أبان الحكم العثماني، وكان العراق مقسما إلى ثلاثة أقاليم متمثلة في البصرة وبغداد والموصل. فقد شهد العراق بعد الاحتلال الامريكي عام ( 2003 ) ، مشاريع التقسيم التي تكرس دويلات طائفية دينية وقومية، بدايةً في مشروع بايدن- غليب لتقسيم العراق، والذي صدر بقرار من الكونغرس الأمريكي غير ملزم وبما يشابه قرار غزو العراق 1998 وقد نفذ عام 2003, فقد اصدر مركز سابان دراسة عام 2008 بعنوان " حالة التقسيم السهل للعراق الخطة ب" " The Case of soft Plan B Partition in Iraq " لتطبيق مشروع بايدن- غليب لتقسيم العراق وبنسخة معدلة, وما جاء بها من توصيات خطيرة لتقسيم العراق يجري تطبيقها تدريجيا وبشكل انسيابي. في حينه طالب نائب الرئيس الأمريكي (جوزيف بايدن) عندما كان سيناتور للحزب الديمقراطي عن ولاية "ديلاوير" الرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية الى تقسيم العراق لثلاث مناطق كردية وسنية وشيعية, وتتمتع كل منهما بالحكم الذاتي, ويقال أن البيت الأبيض في حينها رفض الفكرة على لسان متحدثه الرسمي "توني سنو" الذي قال بالتحديد "لا نريد بلقانا جديد" وكانت مجموعة دراسة العراق برئاسة وزير الخارجية الأسبق "جيمس بيكر" قد رفضت الفكرة بالكامل واعتبرت تقسيم العراق "خطا احمر" لا يمكن تجاوزه, لأنه يؤدي إلى خلق ما أطلق عليه فوضى إقليمية جديدة ستعطي طهران فرصة ذهبية للسيطرة على الإقليم الشيعي الجديد، كما ستثير حفيظة تركيا التي تخشى من قيام دولة كردية جنوبها وبنفس الوقت لقي مشروع "بايدن- غليب" لتقسيم العراق ترحيبا من قبل العديد من أعضاء الكونجرس الذين يرون في تقسيم العراق المخرج الوحيد من المستنقع العراقي . كان الشعب العراقي رافضا بالكامل للمشروع ، ويعتبر مشروع قانون النفط والغاز، وتخصيص 17% من واردات النفط العراقي لما يسمى (حكومة إقليم كردستان) هي خطوة وصفها المراقبون بأنها بداية صريحة لتطبيق مشروع تقسيم العراق، وفق الفدراليات الطائفية والعرقية ذات المنحى الحزبي المؤدلج ، وقد أكد "رويان كروكر" السفير الأمريكي في العراق الأسبق أن برميل البارود الكردي العربي قيد الانفجار وخصوصا سعي الأحزاب الكردية للسيطرة على كركوك بالقوة، وقد كاد ذلك ان يحدث بالفعل قبيل تشكيل قيادة عمليات دجلة وتفاقم الازمة بين الاقليم والمركز . ان الادارة المدنية في زمن بول برايمر بدأت بأول خطواتها عندما تم حل الجيش والداخلية ووضع جدول زمني لتناقل السلطات بدايةً من الحكم العسكري الامريكي الى مجلس الحكم ومن ثم الحكومة المؤقتة والانتقالية، أصدرت مجموعة توصيات إلى الأحزاب الكردية، توصي فيها ضرورة توحيد المليشيات الكردية البشمركة وتشكيل مجلس امن كردي أسوة بمجلس الأمن القومي الامريكي, خصوصا أن شمال العراق يخضع للوصاية الأمريكية منذ عام1991 وفق ما يسمى المنطقة الآمنة، وجرى تشكيل حكومة كردية منفصلة بطابع قومي صرف وكذلك برلمان وشرعت قوانين خاصة تحقق العامل السياسي للانفصال في ظل اتساق العامل الفكري الذي يعزز ثقافة الانفصال عبر ما يسمى حق تقرير المصير، والذي جاء على لسان رئيس الحزب الديمقراطي مسعود البرزاني في أربيل . هناك حقيقة لا يمكن تجاهلها الان في العراق، وما يشهده من تحولات خطيرة وصل الى قاب قوسين او ادنى من الاصطدام، مع ان الحكومة تكون جزء من الازمة في كل مرة، مما يجعل التقسيم أفضل الخيارات المتاحة من جهة، ومن جهة اخرى أن التجربة أثبتت عدم صحة المبدأ القائل بأن العراقيين يريدون العيش معا داخل دولة واحدة ذات حكومة مركزية ، حيث صوت العراقيون في انتخابات السنوات الأخيرة وفقا لمصالح الطوائف التي يدينون لها بالولاء, الى جانب أن العنف الطائفي كشف أن العراقيين يشعرون بالأمان حين يعيشون في منطقة معظم سكانها من نفس الطائفة، وهذا ظهر بوضوح خلال حركات النزوح التي قام بها ألاف العراقيين هربا من العنف . كان للاحتلال الامريكي دور كبير في صناعة العملية السياسية بإبعادها الطائفية والعرقية ونظام المحاصصة، وهي صناعة لا تلائم مجتمعنا بنسبة كبيرة، الامر الذي جعل من تحويرها وفقا للواقع العراقي امراً لا بد منه، فانها بوضعها الحالي تؤدي الى تفتيت البنى التحتية الاجتماعية للشعب العراقي عبر المحاصصة، مع عدم الاغفال من ان هذه الاقاليم ستكون متصارعة على الارض، الامر الذي يفضي الى توضيح الحدود الجفرافية لها لاحقاً. من خلال النظرة الى الواقع العراقي والوضع الراهن، ندرك بان البلد يسير نحو تطبيق مشروع بايدن-جليب لتقسيم العراق , وهناك عدة ملامح أبرزها أن العراق خضع للتجريف والقضم الجيوبليتيكي والتقطيع منذ عام 1990 وبرز جليا عبر قرارات الأمم المتحدة بالحصار الاقتصادي وفرض خطوط الحضر الجوي، وتقسيمه واقعيا لثلاث مناطق, وأعقبه ذلك خلق حالة صراع واحتراب الهويات الفرعية وفق ايديولجيات وهمية وأحداث دراماتيكية ممسرحة , وتشكيل مجلس الحكم بتركيبته الطائفية , وكذلك نشر وتناسل بؤر العنف وتجريف البني التحتية الديموغرافية، خصوصا أن البيئة المليشياوية تحظى برعاية أمريكية إقليمية لتعزز الفوضى والاضطراب السياسي، اللذان يساهمان في تنفيذ المخططات الأجنبية والإقليمية, وكذلك مساهمة حكومات أجنبية وعربية ومنظمات مختلفة في تطبيق منهجية تقسيم العراق،وهناك عوامل مغذية للمشروع ، منها برامج الاحتلال الأمريكي السياسية والعسكرية الاقتصادية الوافدة للعراق، وتقاطع الأجندات الإقليمية والعربية على ارض العراق ورواج سوق الهويات الفرعية بطابعها السياسي وبدوافعها الانفصالية، وغياب البرنامج الوطني الجامع وعدم تجانس الطبقة السياسية وغياب العقيدة السياسية الوطنية وتبني عقائد وافدةمتعددة. بالاضافة الى هشاشة تشكيل القوات المسلحة وخضوعها لعقيدة متشابكة لا تتسق مع معايير توظيف القوة لترصين المجتمع وتامين المكانة الدولية في ظل تفاقم وسائل صناعة الإرهاب، فأذا كنا نمر بكل هذه المراحل من التقسيم فما هي الحلول لتجنبها او لتعطيل هذا المشروع ؟ ويكون ذلك من خلال قيام السلطة التشريعية بإصدار قوانين الأحزاب الذي يضبط إيقاع العمل السياسي وفق مصلحة العراق العليا وقوانين صارمة تجرم الطائفية السياسية والانفصال والتخادم لتطبيق أجندات تقسم العراق , وكذلك حقوق المواطنة والحريات، وحقوق الإنسان وحق العيش الرغيد وأساليب الاستثمار الناجع، الذي يؤمن الرفاهية للمواطن العراقي وديمومة تنمية الدولة العراقية وتحقيق المكانة الدولية. مع قيام السلطة القضائية بثورة في الأداء القانوني الوطني وتطويع القانون للمصلحة العراقية العليا وعدم تسخيرها للطائفية السياسية والأحزاب ومفاصل النفوذ، بالاضافة الى قيام السلطة التنفيذية بإحكام السيطرة على قواتها المسلحة , والتعامل بلون واحد من جميع مكونات الشعب وتحقيق التنمية الإنسانية والاجتماعية، ونشر الوعي الوطني في كافة المفاصل الشعبية لتعزيز الإرادة الجماهيرية الرافضة لتقسيم العراق وتفكيكه وتغير هويته عبر فضح كافة المخططات وزعانفها وأساليبها وتعزيز الوحدة الوطنية، واستخدام التوعية الفكرية والثقافية الأفقية بغية الوصول إلى كافة جماهير العراق، كصمام أمان ضامن لوحدة العراق وتعزيز الفكر السياسي المتحضر بإطاره الوطني. |