الغابة تهمس وانت تجيب |
أظن أنني سأصبح «إيكولوجية» كما يقولون في الغرب. ولا علاقة للمفردة بالكاتب الإيطالي أومبرتو إيكو الذي يطارد الإشارات ويؤلف القصص التي تسحر القراء٬ بل هي تعني الانتماء إلى جماعات الحفاظ على البيئة؛ أي أنصار الطبيعة. من منا يقف ضدها ولم يدندن مع أم كلثوم٬ كلمات بيرم ولحن الشيخ زكريا: «الورد جميل.. جميل الورد»؟ تكرار محبب وتبادل لطيف لموقع الكلمتين. ليس الورد البلدي وحده ما يستحق الدندنة بل كل أفانين الطبيعة٬ لا سيما تلك التي أُحب: زهرة عّباد الشمس التي تتلفت مثل عاشقة لتلتمس النور والدفء٬ وكأن التماس النور عبادة لمن خلق. ومثلها الأشجار والنخيل والأعشاب العطرية من نعناع وريحان وزعتر وكراث وبابونج. أي مطبخ هزيل هو ذاك الذي يخلو منها؟ سأدع الفرن ورائي وأدخل في الموضوع لأقول إنني لم أصدق تلك الصورة التي رأيتها منشورة في صحيفة قبل أيام. قُمع كبير مصنوع من الخشب على شكل لاقطة ضخمة للأصوات٬ يستقر سعيًدا فوق العشب٬ تحت أشجار سامقة لغابة في إستونيا. ولا تسألوني أين تقع تلك البلاد بالضبط طالما أن اسمها يدل على وجودها في معمعة الجمهوريات الجديدة التي فّرخت في شرق أوروبا. ما حكاية هذه اللاقطة الخشبية؟ جاء في المقال أنها من ابتكار طلاب يدرسون الهندسة في أكاديمية الفنون في إستونيا. وقد صنعوها في إطار تجربة تحمل اسم «سماع الغابة». هل أنت رومانسي تنتمي إلى فئة موشكة على الانقراض؟ خذ معك٬ إًذا٬ ما خّف من متاع وتوّجه نحو أحراش تقع في جنوب تلك البلاد. وهناك ستنسى ضجيج السيارات في المدن وقرقعة القدور في المطبخ وزعيق مناضلي الفضائيات٬ وتتفرغ لسماع أصداء الغابة. ستجد الطبيعة تنتظرك لتتفاهم معك بالصوت الحي. في العاصمة تالين٬ صنع الطلاب ثلاثة من مكبرات الصوت العملاقة هذه٬ قطر كل واحد ثلاثة أمتار. ثم نقلوها على امتداد إستونيا حتى فوروما في أقصى الجنوب٬ على شمرة عصا من حدود ليتوانيا. وحسب الصور٬ فإن المكبرات الخشبية تشبه قروًنا مخروطية مجوفة مثل بوق الغرامافون٬ يمكن اعتبارها حجرات مفتوحة تتسع لجلوس عدة أشخاص أو استلقائهم فيها. واهتم الطلاب بوضع كل حجرة في موضع محسوب ومحدد من الحجرتين الأخريين. وهكذا فإن ثلاثتها تتشارك في تكثيف الأصوات واصطيادها من مختلف الجهات. وما على المخلوقات البشرية الموجودة في اللاقطات سوى الإصغاء لهمس الغاب والتماهي مع النبات والهوام والطيور والقوارض والفراشات والسناجب والزواحف والسحالي. ليتني كنت في إستونيا. لمنحت نفسي برهة من تلك التي يسمونها «ساعة لقلبك». وأعرف أن البرهة في اللغة أقصر بكثير من الساعة. لكنني أمني النفس بأن المتعة تتكفل بتمديدها إلى ما يعادل 60 دقيقة. سأجلس على العشب الندي داخل المكبرة الخشبية٬ وأُصيغ سمعي الكليل لما تتكرم به الطبيعة علينا من خباياها. ولست أشك في أن الروح ستتقلب بهجة ما بين صمت الغابة٬ وخريرها٬ وهديلها٬ وزئيرها٬ وزقزقتها٬ ونقيقها٬ وعوائها٬ وفحيحها٬ وتغريدها٬ وهسهساتها. كتب هؤلاء الطلاب المبدعون في الموقع الرسمي لمعهدهم أن الهدف من اللاقطات هو «تكبير الصمت». هل قلت إنهم يدرسون الهندسة؟ ليتهم انتقلوا إلى دراسة الأدب وكتابة الشعر. وهي ليست تمنيات لكسر رقابهم وتوريطهم بنشاط يقودهم إلى الإفلاس. إنهم يعرفون طريقهم جيًدا. ويقولون إن التجربة هي دعوة لموعد يجمع بين الهندسة المعاصرة والطبيعة البكر. مهندسون لا يشيدون البيوت فحسب بل يديرون أعينهم مثل زهور عباد الشمس٬ ويلاحظون أن أكثر من نصف بلادهم تغطيه الغابات. والغابة هي الجار الثامن٬ ولا بأس من صداقتها والاستماع إلى تأوهاتها. «الورد جميل.. جميل الورد». أغنية من بلاد النيلُتحيل إلى أغنية من بلاد الرافدين. وبما أن التقلب من صفات الطبيعة٬ فقد غنى مطربنا يوسف عمر «عيني جميل إيش بّدلك؟». ولم يكن المغني يعني تحولات الفصول بل يغمز من قناة سياسة رئيس الوزراء آنذاك٬ جميل المدفعي. وهات من يشرحها للجماعة في إستونيا.
|