بعتم الثور المجنّح .. فهل الزقّورة للبيع ؟

 

(كانَ) العراقي يباهي العالم عندما يرى أيّاً من آثار الدول الاخرى ويفتخر بأن في العراق حضارة تمتد ستة آلاف عام في عمق الزمن صنعها العراقيون الذين سكنوا على هذه الأرض الطيبة ، وكان يثبت صحة وصدق ما يقوله حينما يستشهد بآثار بابل وآشور وسومر.. وأذكر هنا حادثة حصلت معي حينما كنت في زيارة الى متحف (اللوفر) في باريس حيث كانت تشخص في احدى القاعات النسخة الأصلية لمسلّة حمورابي التي كتبت عليها أولى القوانين في تأريخ البشرية ، وكان النصب محاطاً بفضاء من كل جهاته اهتماماً بقيمته التأريخية وفسح المجال للمشاهدين للتجول حوله والنظر اليه من كافة جوانبه، وكان يقف عند قاعدة المسلّة رجل أمن باللباس الرسمي مخصصاً لحراستها ولمنع أن تمتد اليها يد الفضوليين باللمس أو بما يسيء الى دقة الكتابة المسمارية المحفورة عليها.. ووقفت عندها يملؤني الفخر في أن أرى آثار بلدي موضع اعتزاز في ساحة الحضارة العالمية ، وتأخذني اللوعة في الوقت نفسه في أن أرى النسخة الأصلية لهذه المأثورة التي تعبر عن التأريخ كلّه خارج البلد ، وفي متاحفنا النسخة المقلّدة .. ودفعني الشعور بالفخر والانتماء الى تأريخ العراق ، ولا أخفي شعوري بالمباهاة بانتمائي الى هذا البلد العظيم عندما سحبت من محفظتي عملة ورقية ذات الخمسة دنانير آنذاك من بين ما كان فيها من العملة العراقية ، وكان عليها صورة نصب المسلّة وعرضتها على رجل الأمن الذي لم يكن يتكلم غير الفرنسية وأفهمته بأني من البلد صاحب هذا النصب والذي تحمل عملتنا صورته ، فأبدى إعجابه وانبهاره بذلك .

 

فعلى مدى آلاف السنين ظلّ العراق محتفظاً بآثاره التي تخلّد تأريخه وتعبر عن حضارة الشعوب التي سكنت على أرضه التي لا توجد بقعة فيه إلاّ وفيها من الآثار ما يحكي قصة هذا البلد العظيم .. الى أن حلّت به كارثة الهجمة الهمجية التي قادتها أمريكا وانبعثت من وسط صخبها وضجيجها ما دمّر ماضيها وحاضرها حين تربّع على كراسي السلطة من لم يصن تأريخه ولم يحافظ على حاضره .. فدخلت اليه بفعل الفساد قوى الشر التي تدّعي الاسلام من الارهابيين شذاذ الآفاق الهمجيين أصحاب اللحى القذرة الذين يحلمون بدولة لا إسلامية فدمّروا تأريخه بحقدهم على هذا البلد الزاخر بالحضارات وحطموا آثاره في المناطق التي توغلوا فيها بسبب سياسيي الغفلة الذي ينحصر اهتمامهم بما يدخل في جيوبهم ، فقدموا البلد لقمة سائغة لعصابات داعش صنيعة أمريكا واسرائيل ومن في فلكهما ، ودمّروا حاضره بتشريد ابنائه لاجئين ومهاجرين الى أبعد أصقاع العالم يعانون الغربة من أجل الامان والحرية ، أمّا هم فيتهافتون على المكاسب والامتيازات والغنائم والسرقات ويزرعون في البلد الفُرقة والفتنة والطائفية والأتّجار بالدين ولا يهمهم سوى كنز علي بابا والأربعين ألف حرامي .. واذا باع سياسيو الغفلة أجزاء من روح العراق الذي تقطعت أوصاله ، ودخله أقذر أشرار الكون ليحطموا حضارته في آشور والنمرود والحضر ومقدساته بمراقد الانبياء والصالحين في الموصل ، فحذار أيها العراقيون من أدعياء السياسة والمتاجرين بالدين والخطاب موجه الى الشعب الجريح وليس الى الحكومة من أن تحافظوا على أسد بابل والزقورة ومقدساتنا التي لا يعلم إلاّ الله ما سيؤول اليه مصير البلد في ظل الجراد الذي يأكل الأخضر واليابس ، أولئك الذي لا يهمهم البيع إلا بقدر اهتمامهم بنسبة العمولة ، وحذار من أن يباع دجلة والفرات .