موازنة شد الأحزمة!

يكشف العجز المقدر ( 29.4 تريليون دينار حوالي 25.81 مليار دولار)
في موازنة 2016 (موازنة الامر الواقع بحسب توصيف وزير المالية ) وهو مايمثل 25 % منها، يكشف عن حجم التحديات والمخاطر الاقتصادية التي تحيق بالاقتصاد العراقي فالعجز المرتقب فاق مقدار العجز عن موازنة العام الذي سبقه وتباينت ايضا مفردات هذه الموازنة عن سابقتها فهنالك بون شاسع جدا بينهما اذ بلغت موازنة 2015 (اكثر من 150 تريليوناً فيما بلغت الايرادات 108 تريليونات والعجز 41 تريليونا وسعر البرميل 70 دولارا) في حين بلغت موازنة 2016وبحسب بيانات وزارة المالية التي تم ضغطها الى ابعد مدى الى 100 مليون ترليون دينار وكانت بحدود 113.5 ترليون وستكون
(الايرادات المقدرة للموازنة اكثر من 84 ترليونا و73 مليارا فيما سيتم سد العجز 29.4 تريليون دينار من خلال القروض والسندات واستخدام حقوق السحب الخاص) فيما قدرت الإيرادات النفطية حوالي 69773 مليارا و400 مليون دينار والإيرادات غير النفطية حوالي 14300 مليار وهذه الارقام تدل على شحة الموارد غير النفطية ازاء استحواذ المورد النفطي الريعي غير المستقر وهنا تكمن الخطورة .
وهذه الموازنة وفي حالة اقرارها ولم تدخل في المتاهات والدهاليز التي دخلتها الموازنة السابقة تحمل بين طياتها مؤشرات تدل على انها الموازنة الاكثر تقشفا عن سابقاتها جميعا تلك التي شهدت "بحبوحة" مالية نسبية ازاء ارتفاع مطرد في أسعار النفط وشهدت مقادير من العجز النسبي المسيطر عليه نوعا ما وقد جاءت موازنة 2016 بواقع إجمالي بنسبة 40 % عن العام الماضي مع احتساب الإيرادات الناجمة عن تصدير النفط الخام على أساس معدل سعر قدره والذي تم تحجيمه هو الاخر الى 35$ بعد ان حدد له 40 ـ 45 $ وسقف تصدير اقل من ثلاثة ملايين وستمائة الف برميل يوميا بعد
الترشيق الاجباري ، بضمنها مائتان وخمسون الف برميل يوميا عن كميات النفط الخام المنتج في إقليم كردستان و30000 برميل عن كميات النفط الخام المنتج عن طريق محافظة كركوك وبحسب متابعين للشأن الاقتصادي والمالي العراقي فان اللجنة المالية البرلمانية وضعت إجراءات تقشفية صارمة في جميع ميزانيات مؤسسات الدولة العراقية ويعود ذلك الى طبيعة الاقتصاد العراقي الريعي والمعتمد على النفط بنسبة 98 % مع انحسار بقية الموارد التي تتأتى من قطاعات اخرى فهي شبه معدومة لعدم وجود منافذ اخرى غير النفط تغطي مفردات الإيرادات السنوية للموازنة كالصناعة
والزراعة والسياحة فضلا عن قطاع الاستثمار فقد ورثت حكومات مابعد التغيير النيساني هياكل اقتصادية خربة واقتصادا متهالكا ومثقلا بالديون التي ترتبت بذمة العراق والتي توجب عليه وبحسب قرارات الامم المتحدة ان يفي بها اضافة الى تداعي وتهالك البنى التحتية للقطاع الوحيد الذي يعتمد عليه الاقتصاد العراقي وهو النفط الذي يخضع لمناسيب العرض والطلب في سلة اوبك والاسواق العالمية كمعدلات اسعار مخزونات النفط الامريكي وسوق الصين وسعر برميل برنت نفط بحر الشمال، ويخضع ايضا للتقلبات السياسية والأزمات الاقتصادية وتشابك العلاقات الدولية
والظروف الجوية المعرقلة للإنتاج والتصدير واصبح يضاف اليها مؤخرا الارهاب ،فضلا عن مزاج بعض الدول كالسعودية بالتلاعب في حصص أوبك المقررة لاسيما سياسة الإغراق المتعمد في الانتاج والتصدير الى حد التخمة في معدلات الإنتاج المربكة للسوق النفطية مايؤدي الى التدهور المستمر في اسعار سلة اوبك كما يحصل حاليا .
والحديث عن الموازنة المالية العامة للدولة العراقية هو حديث لاينفك عن النفط وعن اسعاره في ظل تجاذبات العرض والطلب وتقلبات سوق النفط العالمية ولايذهب بعيدا عن هذا المناخ.
ونتيجة لماتقدم فان العراق سيواجه مشاكل اقتصادية حالية ومستقبلية اذا ما بقيت مناسيب أسعار اوبك بالانحدار وعدم الاستقرار المفضي الى رسم خطوط عريضة و"مريحة" لموازنة تفي بمتطلبات العراق واستحقاقاته التي تفوق إمكاناته المادية الحالية بكثير كاستحقاقات ومتطلبات تحرير الاراضي العراقية المغتصبة من قبل داعش واعادة اعمار تلك المناطق اضافة الى ملف النازحين ووضعهم المأساوي ومتطلبات ادامة الماكنة الحربية التي تكلف العراق اكثر من 10 ملايين دولار يوميا ناهيك عن تنفيذ المشاريع الخدمية المتعطلة او المتلكئة بسبب الفساد كالكهرباء وغيرها من
مشاريع البنى التحتية المهمة والتي لها مساس مباشر بالاقتصاد الوطني واستدامة التنمية وحياة المواطن فضلا عن استحقاقات الحشد الشعبي وموظفي الدولة والمتقاعدين ورواتب الرعاية الاجتماعية وغيرها لاسيما وان هنالك دعوات بتقليص الموازنة التشغيلية الى النصف وافتراض اسعار تخمينية للنفط الى اقل حد ممكن للبرميل الواحد وضغط مستوى سقف الانتاج لتكون البيانات الختامية للموازنة متوازنة مع السوق العالمية للنفط ، ولهذا فقد اطلقت الحكومة مبادرات للتنمية الاقتصادية وتفعيل القطاعين الخاص والعام وتحقيق الشراكة فيما بينهما الى جانب المباشرة
بتفعيل الاستثمار واستحداث قوانين ملائمة له لتحقيق التنمية الاقتصادية ومواجهة الازمة المالية والامنية وتنويع الموارد كوسيلة من وسائل رفع الأعباء عن كاهل الحكومة وزيادة واردات الدولة وتأتي هذه المبادرات ترجمةً لما جاء في البرنامج الحكومي الذي أطلقه السيد العبادي ( المحور الاقتصادي ثالثا: تشجيع التحول نحو القطاع الخاص يتوقف النمو الاقتصادي المستدام المولد للدخل على مدى القدرة على تنمية القطاع الخاص لتوفير فرص عمل افضل وتحمل مسؤوليته تجاه المجتمع واعادة تقسيم الادوار بين الحكومة والقطاع الخاص والذي يتطلب مراجعة القوانين
والتشريعات التي تنظم العمل بما يؤمن توفير مناخ استثماري مشجع لجلب رؤوس الاموال فضلا عن تعزيز الصناعة والتجارة والزراعة والسياحة وتوفير البنى التحتية الضرورية لخلق مصادر تمويل اضافية للموازنة العامة للدولة بدلا من الاعتماد الكلي على النفط ) ونحن اليوم بحاجة ماسة إلى زيادة الدور الذي يوكل إلى القطاع الخاص في خطط التنمية من خلال الحوافز التي تقدم له، بحيث يستحوذ تدريجياً على النصيب الأكبر من الاستثمار والعمالة والناتج على المستوى المحلي.
وفي المنظور المستقبلي سيكون الاقتصاد العراقي في خطر حقيقي دون تفعيل آليات الانتقال الى اقتصاد السوق وفسح المجال امام القطاع الخاص ليلعب دوره في تنشيط الاقتصاد الوطني وتشكيل رافد اخر يصب في رفد الموازنة المالية ورفع العبء الكبير عن كاهل الدولة وكسر احتكار العامل النفطي في تغذية الموارد العامة للدولة ، كما انه من المحتمل ان تدخل ايران بعد رفع الحظر المفروض عليها كمنافس اخر للنفط العراقي يضاف الى السعودية مما يؤدي الى انحدار اسعار النفط الى معدلات "تشاؤمية" غير متوقعة كما انه من المبكر الحكم على تأثير إجراءات السيد العبادي
الاصلاحية والتقشفية على الاقتصاد الوطني بشكل عام وكل التقارير المالية تشير الى ان الاقتصاد العراقي الذي أنهكه الفساد وحرب البترول لن يشهد "بحبوحة" مالية اخرى في المستقبل المنظور الى ان تعود اسعار النفط بالارتفاع مرة اخرى وهذا لن يكون قبل عام 2020 مايعنى ان سياسية شد الأحزمة ستستمر الى ابعد من هذا التاريخ .