يحاول الفهم الجمعي أن يوجد علاقة حصرية ما بين العدل والمنظومة القضائية وهذا الربط بالتأكيد له ما يبرره على اعتبار أن القضاء هو أحد أهم مظاهر العدل وتطبيقاته تقتضي الارتكاز على هذا المفهوم الشامل العام غير إن الاعتراض هنا يأتي من انه لا يمكن حصر مفهوم العدل بتطبيق معين مهما بلغ هذا التطبيق من المكانة والأهمية خاصة وان ذات الفهم الجمعي يختزن في ذاكرته مقولات تنافي هذا الحصر والتضييق من قبيل " العدل أساس الملك " وهي مقولة تضع العدل في المكانة التي يستحقها والتي تتناسب مع دوره بوصفه احد المرتكزات للحياة السليمة ومن مقتضيات العدل العمل وفقاً لمبدأ الاستحقاق الذي يعني التمتع بالمؤهلات التي تسمح للشخص في ان يشغل مركزاً ما مع مراعاة الاطلاق للشخص والمركز وخلاف ذلك تبدأ أرضة الظلم بنخر الأسس تمهيداً لتحطيمها وإنهائها فيكون الظلم مهلكاً للعروش . وفي التجربة الديمقراطية العراقية المعاصرة أخذت لغة الاستحقاق أكثر من معنى وشغلت تبعاً لذلك أكثر من مكان فعند انطلاق الخطوة الأولى للتغيير بادرت الطبقة السياسية بالمطالبة باستحقاقاتها الثورية للحصول على حصتها من الحكم بالقدر الذي يتناسب مع عقود تضحيتها وتهجيرها وإبعادها وما دفعته من أثمان باهضة لمقاومة الدكتاتورية ومقارعتها وبطبيعة الحال فان القوى السياسية تختلف وتتباين في طريقة النظر إلى المرحلة الجديدة بقدر اختلافها على النظرة إلى طبيعة علاقات النظام السابق مع المجتمع الدولي والإقليمي ومستقبل العلاقة مع الولايات المتحدة " راعية التغيير " وبهذا المشهد المتباين حد التناقض بدءنا نشاهد أسماء واختفاء أسماء أخرى مثلت الإدارة الأمريكية الصوت الأقوى في هذه المرحلة وبدءت صفحات التاريخ السياسي العراقي تكتب مرحلة جديدة شكّل فيها مجلس الحكم أول هذه الصفحات لنشهد مسلسلاً من الإخفاقات التي مارسها الحاكم المدني " بول بريمر " الذي لا استبعد ان يقدم للمحاكمة بعد أن تستعيد المؤسسات العراقية عافيتها وقدرتها على إدارة أمور البلاد دون الوقوع تحت التأثيرات . وفي الوقت الذي كانت القوى السياسية وقادتها قد انقطعت تماما عن القواعد الشعبية في الداخل العراقي وابتعدت حتى عن حركات المقاومة الداخلية التي أنتجها الشعب العراقي في الداخل وذلك بسبب العزلة الحديدية التي فرضها النظام البعثي للفصل ما بين الشعب وقياداته الحقيقية ساهمت هذه القوى ومع الأسف في توسيع الهوة من خلال عدم العمل على ردمها وتقليصها وركنت إلى سالف الود بينها وبين الشعب معتمدة على إرضاء النخب وتقاسم الأدوار فيما كان الشعب مأخوذاً بعاصفة الذهول وتسونامي الدهشة ينظر إلى الرموز الكبيرة والأسماء المحفورة في ذاكرته بماء الذهب وقد أشاحت بوجهها عن معاناته واكتفت بالشعارات وإلقاء الخطب وتقديم المزيد من الوعود التي لم يتحقق منها شيء على ارض الواقع بل إن الوضع تحسن في جهة وانهار وازداد تفاقما من جهات أخرى فالشعب العراقي الذي تساهل إكراما لرأي قادته في تقبل الوجود الأمريكي الذي يرفضه رفضاً مطلقاً من خلال موروثه الديني والاجتماعي والسياسي لم يكن ليقبل مثل هذا الوضع الشاذ ليرى طبقة أمعنت في الرخاء والرفاهية والتسابق فيما بينها لتحطيم الأرقام القياسية في الثراء الفاحش والاستهانة بآدمية الآخرين بل وإعداد التهم الجاهزة لكل من يحاول الاعتراض أو الرفض أو إبداء وجهة نظر أخرى تختلف عن نظرة الساسة في أجواء يفترض إنها تسمح لمثل هذه الاعتراضات في الإطار السلمي والديمقراطي الذي كفله الدستور " على ما فيه من ثغرات " ومنذ ذلك الوقت بدءت تتضح ملامح المرحلة الجديدة التي نؤمن تماما إنها كانت قادرة بما تمتلكه من أسباب النجاح أن تكون عنوانا لانتقال العراق إلى مراحل جديدة لا تستطيع معظم شعوب الشرق الأوسط بلوغها لولا ذلك الاستخفاف بمعاناة وألم المواطن والمراهنة على الصبر السرمدي الذي يبدو انه القدر المهيمن على مصير هذا الشعب . إن الأرقام المخيفة والمرعبة لميزانيات العراق في سنوات ما بعد التغيير مقارنة بالواقع المؤلم لمعظم أبناء الشعب يضعنا أمام علامات استفهام كبيرة تقتضي ان توضع لها إجابات عملية تنصف المظلوم الذي لم يعد يقوى على المزيد من الانتظار وتقتص من المفسدين الذين حوّلوا أموال الشعب إلى جيوبهم وحساباتهم وان نشرع منذ الآن بمرحلة جديدة تضع استحقاق الشعب أولاً وقبل كل شي مرحلة نرفع عنه الاستخفاف الذي مورس بحقه – بقصد أو بغير قصد – طوال السنوات الماضية لنبدأ مرحلة من المصالحة الحقيقة بين الرموز السياسية وبين الشعب من خلال اعتماد مبدأ المكاشفة والمصارحة و " الشفافية الحقيقية حيث جرى استهلاك هذه المفردة " وكذلك إعلان البراءة من المفسدين وتقديمهم إلى العدالة بعد بذل الجهود لاستقدام واعتقال ومحاكمة من تثبت الوثائق تورطهم بالفساد والإثراء على حساب المال العام ومزوري الشهادات من شاغلي المناصب بدون استحقاق مهما كانت درجاتهم ورتبهم وإعادة الروح إلى القانون والنظام فقد وصلنا مرحلة من الاستهانة والاستخفاف بالعراقي إن جميع دول الجوار الإقليمي تتمكن من تهديدنا والتدخل في شؤوننا هذا الاستخفاف الذي لا يليق بتاريخ وحاضر ومستقبل العراق لكنه كان المحصلة الطبيعية لاستخفاف بعضنا بالبعض الآخر ولشرعنة الفساد في مؤسساتنا فليس من المعقول أن هذا الشعب العظيم الذي أمضى أكثر من ثلاثة عقود على مذبح الحرية وقدم خلالها نماذج مشرقة من التضحية والشجاعة والإيثار في قواتم من الشرق والمجد والشهادة ساهمت في اشراقتها أسماء ورموز من مختلف المكونات والأديان والقوميات والمذاهب إن يتخلى عن كل ذلك الألق والزهو والفخر لصالح أسماء طارئة تريد أن تغيّر المعادلات الصديقة والقواعد الصلبة الثابتة والأسس الراسخة لهذا الشعب العظيم الذي اثبت وفي مختلف فترات الظلم الذي تعرض له انه قد يعتل وقد يمرض ولكنه عصي على الموت وسرعان ما تنقشع هذه السحب الدخيلة حين يلفظ جسد العراق المعافى كل " الفيروسات " المصدرة إليه فنحن كثيراً ما نتداول في فهمنا الجمعي " انه في النهاية لا يصح إلا الصحيح " .
|