لايستفزنكم العنوان، فانا لا اريد ان اتكلم عن الاستعمار لانه تغلغل في اوردتنا وصار صديقا مخلصا لنا، يدافع عن اراضينا ويستخرج نفطنا ويورد لنا السلاح، وفوق هذا وذاك صارت شعوبنا جزءا لايتجزأ من بنية المجتمع الاستعماري، باللجوء والسفر والدراسة، ولم يعد هناك ادورد سعيد ليضرب تحت الحزام ويفضح الاستشراق الاستعماري، بل على العكس صارت ديمقراطية الاستعمار هي اساس حياتنا ومماتنا، فمن مات على غير ديمقراطية الاستعمار مات ميتة جاهلية، الحكاية ومافيها ان فتى جنوبيا اسمه خنجر وفد الى بغداد في بداية الخمسينيات، واستطاع ان يكون من المتفوقين في الاعدادية المركزية، وقدم على بعثة دراسية لدراسة هندسة النفط في لندن، قبل الرجل ولكن نغصت سفرته مماحكة مدير التبادل الثقافي العراقي، فقد اعترض على اسم خنجر وطلب منه استبداله، والا فانه سيعارض ارساله الى هناك.
ابو الفتى كان فراشا في احدى الدوائر، فذهب يطلب لقاء الزعيم عبد الكريم قاسم، وفعلا تم له ذلك، وطرح المشكلة على الزعيم الذي رفع سماعة الهاتف وامر مدير التبادل الثقافي ان يدع خنجرا كما هو وعليه ان لا يتدخل بالاسماء بقدر تقييم الاشخاص المتفوقين( ومعها رزاله ناشفهْ) وقال له بالحرف الواحد: (هذا خنجر بصدر الاستعمار)، لكنه للاسف لم يكن كذلك، فقد استقر بلندن وتزوج وانتهى الامر ولم يزر العراق اطلاقا، ربما تركت هذه الحادثة الكثير في نفس خنجر فقرر ان يكون انكليزيا، فهناك لامعنى للا سماء، والتقدير الوحيد الذي يلقاه الفرد هو على اساس عمله وكفاءته، ولذا لو قارنا بين بغداد ولندن في الخمسينيات لا نلاحظ فرقا كبيرا في نوعية الناس والبنية التحتية، ولكننا سنشمئز من المقارنة لو حدثت في وقتنا الحاضر.
استبدل خنجر مجتمعا يرى في الاسم عار وسبة على الشخص، بمجتمع آخر يقيم الانسان من زاوية عمله وتفانية، فرأى حياته هناك اكثر فائدة من حياته هنا، وحتى لا يكون مثل العالم الذي استقدم في اثناء دعوة الكفاءات في زمن صدام ، وبالتالي تسلم حقلا للدواجن ليشرف عليه، هي بؤرة المشكلة تكمن هنا، عدم تقييم الكفاءات، ولذا صار العراقي يدخل الى الوظيفة للتحصيل وليس للعمل، وصار الطالب يدخل للمدرسة لغرض النجاح فقط ،وبأية طريقة وليس لتوسيع المدارك او بناء الشخصية،
وهذا ما جعل احد اقاربي يطرق الباب يوميا ليطالبني بنجاح ابنه الذي حصل على 37 من مئة في الرياضيات، ويحتج ان درجة القرار عشرة، عندها لم يبق للنجاح سوى ثلاث درجات، افهمته ان اعادة السنة افضل لابنه على المدى البعيد، فربما صار شأنه كبيرا في الرياضيات اذا انتصر على عقدته.
الاسماء والالقاب في العراق تعني الكثير للكثيرين، ولكنها لم تستطع تطوير العراق على مختلف العهود التي مر بها، بوعي مجتمعي منحط، وللاسف كانت الطبقة الارستقراطية اكثر الناس اهتماما بالاسماء، وتنفسنا الصعداء في بداية السبعينيات عندما اصدر مجلس قيادة الثورة قرارا يلغي بموجبه اللقب، ولكن سرعان ما اندثر هذا القرار لتعود الالقاب والاسماء تملأ نفوسنا ومخيلتنا، وصار خريبط يستحي من اسمه ثانية، ويتردد في مراجعة اية دائرة، خوفا من صراخ الموظف مع ضحكة سخرية كبيرة، ولو ان خريبط جاءته الفرصة للسفر الى لندن، لبقي هناك واصبح مستر خريبط، فهذا فقط يعدل عنده الوطن الذي يسخر منه، ولم يود ان يكون خريبط بصدر الاستعمار، كما صار خنجر، خنجرا في صدر الاستعمار.