1 -المتنبي وخولته تحليلاً للعشق،مقدمة لابن زيدون وولّادته ...كريم مرزة الأسدي

 

 

امرؤ القيس وفاطمته ، وكعب وبردته استطراداً

وفي الحلقة الثانية 

 2 - الجواهري وعريانته ..مقدمات  لابن زيدون وولّادته

 

 

أين المتنبي ما بين قوله : 

مِمّا أضَرّ بأهْلِ العِشْقِ أنّهُمُ *** هَوَوا وَمَا عَرَفُوا الدّنْيَا وَما فطِنوا
تَفنى عُيُونُهُمُ دَمْعاً وَأنْفُسُهُمْ ****** في إثْرِ كُلّ قَبيحٍ وَجهُهُ حَسَنُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقوله في حق خولة أخت سيف الدولة الحمداني : 

كَتَمتُ حُبُّكِ حَتّى مِنكِ تَكرِمَةً **** ثُمَّ اِستَوى فيكِ إِسراري وَإِعلاني
كَأَنَّهُ زادَ حَتّى فاضَ مِن جَسَدي ** فَصارَ سُقمي بِهِ في جِسمِ كِتماني

 

التمهيد:

نحن أمام بطلي عشق عربي من زمان الوصل في الأندلس ،ورابطة الحب هي أقوى الروابط الإنسانية كافة ، لأن دافعها غريزة الجنس والبقاء ، وما الجنس إلا استمرار الحياة ،وهذا  يعني وجودكم ووجودنا ، ووجود الأجيال ، والحب الاجتماعي من سبل بقاء النوع  ، فمن أين يأتي العيب    وأمة العرب من أرقّ وأرقى  أمم العالم حبّاً وعشقاً وغزلاً وعاطفة ،رغم كلّ ما قيل عنهم ، وما يُراد لهم ، هذا امرئ القيس منذ جاهليتهم الأولى يقول :

أفاطِمُ مهلاً بعض هذا التدلل *** وإن كنتِ قد أزمعت صرمي فأجملي 

وَإنْ تكُ قد ساءتكِ مني خَليقَة ٌ ***** فسُلّي ثيابـــي من ثيابِكِ تَنْسُلِ 

أغَرّكِ مني أنّ حُبّكِ قاتِلـــــي **** وأنكِ مهما تأمـــري القلب يفعـــل 

وهذا كعب بن زهير يتشبب بما هو أجمل بحضرة النبي الكريم (ص) ، فيستحسنها ويخلع بردته عليه كوسام بقى إلى يومنا نتبرك به : 


بـانَتْ سُـعادُ فَـقَلْبي اليَوْمَ مَتْبولُ ***** مُـتَـيَّمٌ إثْـرَها لـم يُـفَــدْ مَـكْبولُ
وَمَـا سُـعَادُ غَـداةَ البَيْن إِذْ رَحَلوا *** إِلاّ أَغَـنُّ غضيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ
هَـيْـفاءُ مُـقْبِلَةً عَـجْـــزاءُ مُـدْبِرَةً **** لا يُـشْتَكى قِـصَرٌ مِـنها ولا طُولُ
تَجْلُو عَوارِضَ ذي ظَلْمٍ إذا ابْتَسَمَتْ **** كـأنَّـهُ مُـنْـهَلٌ بـالرَّاحِ مَـعْلُولُ
شُـجَّتْ بِـذي شَـبَمٍ مِنْ ماءِ مَعْنِيةٍ **  صـافٍ بأَبْطَحَ أضْحَى وهْومَشْمولُ
تَـنْفِي الـرِّياحُ القَذَى عَنْهُ وأفْرَطُهُ *** مِـنْ صَـوْبِ ســارِيَةٍ بِيضٌ يَعالِيلُ
أكْـرِمْ بِـها خُـلَّةً لـوْ أنَّهاصَدَقَتْ **  مَـوْعودَها أَو ْلَوَ أَنَِّ النُّصْحَ مَقْبولُ
لـكِنَّها خُـلَّةٌ قَـدْ سِـيطَ مِنْ دَمِهــا ****  فَـجْـعٌ ووَلَـــعٌ وإِخْـلافٌ وتَـبْديلُ
فـما تَـدومُ عَـلَى حـالٍ تكونُ بِهــــا **** كَـما تَـلَوَّنُ فـي أثْـوابِها الـغُولُ
ولا تَـمَسَّكُ بـالعَهْدِ الـذي زَعَــــمْتْ ****إلاَّ كَـما يُـمْسِكُ الـماءَ الـغَرابِيلُ
فـلا يَـغُرَّنْكَ مـا مَنَّتْ وما وَعَـــــدَتْ **** إنَّ الأمـانِـيَّ والأحْـلامَ تَـضْليلُ
كـانَتْ مَـواعيدُ عُـرْقوبٍ لَهــــا مَثَلا **** ومــا مَـواعِـيدُها إلاَّ الأبـاطيلُ

قد كتبت عن امرئ القيس وفطومته ، وعن هذه ( البردة وكعبها ) بالتفصيل ، ولا أريد أن أكرر نفسي ، إذن ماذا بقى بعد هذا التشبيب للغزل والمتغزلين  حتى يعذل العاذلون ، ويلوم اللائمون ، لمن يغزل العشق غزلا  ، ويبوح الوجد بوحا ؟   وقد بارك النبي (ص) هذه البردة ببردته  ، وأنت جميل تحب الجمال !! و جعلت بين الناس مودة ورحمة ،، وجاذبية لا توصف ، ففتحت لهم  أبواباً ، وباب الغزل منها ، وهي  من أوسع وأبهى وأجمل  أغراض الشعر العربي ، إذ لا يفقه هذه المعاني ولا يتفهم إيحاءاتها إلا مَن يكون مرهف الحس ، رفيع الذوق ، إنساني النزعة ، طيب العشرة ، وما بعد ذلك لم تبقَ إلا صورة اللحم والدم ، كأي بهيمة قبيحة في هذا الوجود ...!! وقد فطن المتنبي العظيم  الرائد الأول في الأدب العربي - مالئ الدنيا ، وشاغل الناس -  على حد تعبير ابن رشيق القيرواني - لهذه العلاقة الغريزية الخفية المعجزة وحاول أن يقفز عليها ليسمو إلى الفكر دونها ، ولكن هيهات هيهات أن يخلد الفكر دون الإنسان وبالإنسان الزوج الحبيب :
مِمّا أضَرّ بأهْلِ العِشْقِ أنّهُمُ *** هَوَوا وَمَا عَرَفُوا الدّنْيَا وَما فطِنوا
تَفنى عُيُونُهُمُ دَمْعاً وَأنْفُسُهُمْ ***** في إثْرِ كُلّ قَبيحٍ وَجهُهُ حَسَنُ

   لا ريب أنّ بيتي المتنبي من أروع التأملات الإنسانية للسر الخفي وراء المظاهر السلوكية الظاهرية للغريزة الجنسية ، ولكن حتى لو عرف الإنسان هي لتواصل النوع يقع فيها جبراً ، لا خيار للإنسان فيها ، لا للمتنبي له خيار  ، ولا لأبي العلاء المعري أحمد ، ولا لأبيه عبد الله خيار  ، وإن قال :

هذا جناه أبي عليّ ، وما جنيت على أحدْ 

الله يعلم يا أبا العلاء ، كيف كنت تسير أمورك ؟!!  المهم معرفة الإنسان للعلّة ، لا تجنبه الوقوع فيها ، بمعنى معرفة طبيبي السرطان ، أو السكر ، لا تعفيهما من الإصابة بهما !!   

المتنبي  في بيتيه  عمّم ( أهل العشق) دون استثناء ، ولم يرَ إبداع الخلق إلا بعين النقصان ، ولا أعني المتنبي بعمومه ، ولكن في جزئية لحظات هذه الإبداعات . وإلا فشاعرنا العظيم قد قال أبيات رائعة ، تعد من أرق الغزل في حق خولة أخت سيف الدولة الحمداني : 

كَتَمتُ حُبُّكِ حَتّى مِنكِ تَكرِمَةً **** ثُمَّ اِستَوى فيكِ إِسراري وَإِعلاني
كَأَنَّهُ زادَ حَتّى فاضَ مِن جَسَدي ** فَصارَ سُقمي بِهِ في جِسمِ كِتماني

ومن جميل قوله الغزلي ، هذه الأبيات من قصيدته البائية : 

مَنْ الجآذر في زي الأعاريبِ *** حمر الحلى والمطايا والجلابيبِ 

إن كنت تسأل شكّا في معارفها *** فمن بلاك بتســــهيد وتعذيــبِ 

أزورهم وسواد الليل يشفع لي ** وأنثني وبياض الصبح يغري بي 

ما أوجه الحضر المستحسنات به *****كأوجه البدويات الرعابيب 

حسنُ الحضارة مجلوبٌ بتطرية *** وفي البداوة حسن غير مجلوب

أفدى ظباء فلاةٍ ما عرفن بها  ****مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام مائــــلةً **** أوراكــــهن صقيـــلات العـراقيبِ
متنبينا العظيم ( يستنكي ، ما يعرف شيل وحط !!، يكلك العرب ما عدهم ذوق  ، وناسهم أجلاف !!) 

لغير العراقيين من القرّاء الكرام ، نحن العراقيين في الصيف نبيع البطيخ الأحمر ، ونطلق عليه اسم ( الرقي) ، لأنه كان يصلنا من مدينة ( الرقة ) السورية ، وهي مدينة شهيرة على الفرات ، وكان الرشيد يتّخذها عاصمة صيفية له ، هذا الرقي أما أن يباع  مستنقى من النقاوة ، أو عندما تأتي الحمولات بالسيارات أو على ظهور الحمير والبغال من قبل  ، البائع يرفض البيع حسب النقاوة ( مستنقى ) ، بل  يقول (شيل وحط) وشيل من شال يشيل أي ارفع ، احمل ،وحط من حطّ يحطّ ، أي أنزل الشيء وحطّه في محطّ آخر، من محطتي لمحطتك بسرعة دون استنقاء  ، وكلها كلمات عربية فصحى ، ونحن للسهولة والسرعة ، نقول :( ما  عدهم ) ، نعني ما عندهم ، المهم المتنبي العظيم أجهد نفسه للمقارنة والتحليل والتفضيل ، وقد فضل البدويات الرعابيب - الرُّعْبُوبُة  الغضَّة الطويلة الممتلئة الجسم ، البيضاءُ الحلوة - غير المتكلفات البليغات الفصيحات على الحضريات المستحسنات المتجملات بالاحتيال ، وفي البيتين الأخيرين مما استقطعناه كمّل حججه  وأسباب تفضيله  ،  وقد رأى أهل البلاغة في بيته :

 أزورهم وسواد الليل يشفع لي ** وأنثني وبياض الصبح يغري بي 

جمع في هذا البيت بين خمس مطابقات الزيارة والانثناء وهو الإنصراف والسواد والبياض والليل والصبح والشفاعة والأغراء ولي وبي ومعنى المطابقة في الشعر الجمع بين المتضادين (1)

وأنا استطرد وقد جرنّي الحديث إلى المتنبي طبعاً لا تكلفاً كالبدو كما يقول متنبينا العملاق ، والعرب علّلوا ، وقالوا : الحديث شجون .