عَلَّمَتْنا كَرْبَلاءُ (٣)

                         

   انّ التّوثيق والتّحديث عنصران مهمّان في عمليّة تنشيط ذاكرة الامم والشعوب،لتتعلّم وتنضج وتتطوّر.

   فبقدرِ ما يسعى الطّاغوت لتجهيلِ النّاس من خلال العملِ بكلِّ الوسائل وبكلّ مابوسعه لينسوا ويغفلوا ليسهَل عليه إِحكام قبضتهِ الحديديّة عليهم وبالتالي يسهَلعليه سرْقة الوطن وخيراتهِ وكلّ الفرص المُتاحة، لهُ ولزبانيتهِ ومحازبيهِ وعشيرتهِ،بنفسِ القدر ينبغي ان يبذُل المصلح والثّائر ما بوسعهِ لتوثيق جرائم الطّاغوتلتنشيط ذاكرة المجتمع وكذلك تحديثها على مستويين؛ التّكرار والاسلوب والأدوات.

   اذا نسِيَ النَّاسُ الحقائق، او تناسَوا، فتنقلبُ عندهمُ رأساً على عقِب، اذا بيزيدٍالقاتل الفاجر السكّير المنحرف ابْن الطّلقاء أَميراً للمؤمنين والحسين السّبط سيد شبابأهل الجنة وريحانةِ رسول الله (صيُقتل بسيف جدّه!.

   لم يضيّع الحسين عليه السلام أيّة فرصة تمر من دون ان يذكّر الطّاغوتبتاريخهِ الأسود وجرائمهِ البشعة، وهو في نفس الوقت يذكّر النّاس بها من أجلان لا يُخدع به أحدٌ، فيُقتل الحسين عليه السّلام.

   فقد قدِم مُعاوية بن هند آكلة الأكباد إلى المدينة حاجّاً، وفيها مهّد لاستخلاف ولدهيزيد، ولكنّ الحسين (عرفض قائلاً في مجلسهِ: {أمّا بعد، يا معاوية، فلن يؤدّيالقائل، وإن أطنبَ في صفةِ الرّسول (صمن جميعٍ جزا، وقد فهمتُ ما لبّست بهالخلف بعد رسول الله (صمن إيجاز الصّفة والتنكّب عن استبلاغ النّعت، وهيهاتَهيهاتَ يا مُعاوية، فضحَ الصُّبحُ فحمةَ الدُّجى، وبهَرتِ الشمسُ أنوار السِّرج، ولقدفضّلتَ حتّى أفرطتَ، واستأثرت حتّى أجحفتَ، ومنعتَ حتّى بخلتَ، وجُرتَ حتّىجاوزتَ، ما بذلتَ لذي حقِّ مَن أتمّ حقّهُ بنصيبٍ، حتّى أخذَ الشّيطانُ حظّهُ الأوفر،ونصيبهُ الأكمَل.

   وفهمتُ ما ذكرتهُ عن يزيد، مِن اكتمالهِ وسياستهِ لأمّة محمّد، تريدُ أن توهمَ النّاسفي يزيد، كأنّك تصِفُ محجوباً، أو تنعتُ غائباً، أو تُخبرُ عمّا كان ممّا احتويتَهُبعلمٍ خاصٍّ، وقد دلّ يزيد من نفسهِ على موقِع أبيهِ، فخذْ ليزيد فيما أخذَ به مناستقرائهِ الكِلاب المهارشَة عند التَّهارش، والحمام السّبق لأترابهنّ، والقينات ذواتِالمعازِف، وضروبِ الملاهي، تجدْهُ ناصراً، ودعْ عنك ما تُحاول، فما أغناكَ أن تلقىالله بِوزْرِ هذا الخَلق بأكثرِ ممّا أنتَ لاقيه، باطلاً في جَوْر، وحنَقاً في ظُلم، حتّىملأتَ الأسقيةِ، وما بينكَ وبين الموتِ إلاّ غمضةٌ، فتقدِمُ على عملٍ محفوظٍ في يومٍمشهودٍ، ولاتَ حين مناص.

   ورأيتكَ عرّضتَ بنا بعد هذا الأمرِ ومنعتَنا عن آبائِنا، ولقد، لعمرُ الله، أورثناالرسول ولادةً، وجئتَ لنا بها ما حججتُم به القائم عند موت الرسول (ص)فأذعنَ للحجّة بذلك، وردّه الإيمان إلى النَّصَف، فركِبتم الأعاليل، وفعلتُم الأفاعيل،وقلتُم : كان وما يَكُونُ، حتّى أتاكَ الأمرُ يا معاوية من طريق كان قصدُها لغيركَ،فهناكَ فاعتبروا يا أُولي الأبصار.

   وذكرتَ قيادةَ الرّجل القوم بعهدِ رسول الله (صوتأميرَه لهُ، وقد كان ذلك،ولعمرو بن العاص يومئذٍ فضيلةٌ بصحبةِ الرّسول وبيعتهِ لهُ، وما صار لعمرويومئذٍ حتّى أنِفَ القومُ إمْرتهُ، وكرِهوا تقديمَهُ، وعدّوا عليه أفعالهُ، فقال (ص) {لا جرمَ معشِر المهاجرين، لا يعملُ عليكم بعد اليوم غيريفكيف يحتجّبالمنسوخ من فعلِ الرّسول في أوكدِ الأحوالِ وأولاها، بالمجتمعِ عليهِ منالصّواب؟ أو كيف صاحبتَ بصاحِبٍ تابعٍ، وحولك مَن لا يؤمَنُ في صُحبتهِ؟ولا يُعتمدُ في دينهِ وقرابتهِ؟ وتتخطّاهم إلى مُسرفٍ مفتون؟ تريدُ أن تُلبسَ النّاسِشبهةً يسعدُ بها الباقي في دنياه، وتشقى بها في آخرتك، إنّ هذا لهو الخسرانُالمبين، واستغفر الله لي ولكم}.

   أُنظر كيف فضح الامام (عالطّاغوت على رؤوسِ الأشهاد وهو في عنفوانِسُلطانهِ وعلوّ مُلكهِ، لدرجةٍ انّ الامام يذكرهُ باسمهِ بلا ألقابَ من تلك التيتطربُ لها آذانُ الظّالم واسماع الحواشي من الوصولييّن والانتهازيّين.

   وصدق أَميرُ المؤمنين (عالذي يصف المؤمن، سيّد الشّهداء (عهنا ابرزُمصداقٍ، بقوله {وَكَانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتاً فإِنْ قَالَ بَذَّ الْقَائِلِينَ وَنَقَعَ غَلِيلَ السَّائِلِينَ،وَكَانَ ضَعِيفاً مُسْتَضْعَفاًفَإِنْ جَاءَ الْجِدُّ فَهُوَ لَيْثُ غَاب وَصِلُّ وَاد لاَ يُدْلِي بِحُجَّة حَتَّىيَأْتِيَ قَاضِياً}.

   وفي رسالةٍ جوابيّةٍ كتبها سيد الشهداء الامام الحسين بن علي عليهما السلام الىطاغية الشام مُعاوية، يتّهمهُ فيها انّهُ يعدّ العدّة للتمرّد على سلطانهِ وانّهُ يحرّضالنّاس ضدّهُ، كتب اليه الحسين السّبط (عيذكّره ويذكّر النّاس بحرائمهِ البشعة التييندى لها الجبين؛

   أمّا بعدُ، فقد بلغني كتابك تذكر انّهُ بلغتكَ عنّي أُمورٌ ترغبُ عنها، فانكانت حقاً لم تقارنّي عليها، ولن يهدي الى الحسنات ويسدّد لها الا الله، فأمّا مانمى اليك فانّما رقاهُ الملّاقون المشاؤون بالنّمائم، المفرّقون بين الجميعِ، وما أُريدحرباً لك ولا خلافاً عليك، وايمُ الله لقد تركتَ ذلك وأنا أخافُ الله في تركهِ، وماأظنّ الله راضياً عني بتركِ محاكمتك اليه، ولا عاذري دون الاعذارِ اليه فيكَ وفيأوليائكَ القاسطين الملحدين، حزب الظّالمين وأولياء الشّياطين.

   ألستَ قاتل حجر بن عدي و أصحابهُ المصلّين العابدين، الذين ينكرونَ الظلمويستعظِمون البِدع، ولا يخافونَ في الله لومةَ لائمٍ، ظلماً وعدواناً، بعد إِعطائهمالأمان بالمواثيق والايمان المغلّظة؟!.

   أولستَ قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله (صالذي أبْلتهُ العبادة وصفرتلونهُ وأنحلتْ جسمهُ؟!.

   أولستَ المدّعي زياد بن سميّة المولود على فراشِ عبيد عبدِ ثقيف، وزعمتَ أَنَّهُابْنُ أبيك، و قد قال رسول الله (ص) {الولد للفراشِ وللعاهرِ الحِجْر}؟ فتركتَ سنّةرسول الله (صوخالفتَ أمرهُ متعمّداً، واتّبعتَ هواكَ مكذّباً، بِغَيْرِ هدىً من الله، ثمسلطتهُ على العراقينِ فقطعَ أيدي المسلمين وسمل أعينهُم، وصلبهُم على جذوع النّخل،كأنّك لستَ من الامة وكأنّها ليست منك، و قد قال رسول الله (ص) {من ألحقَ بقومٍنسباً لهم فهو ملعون}!.

   أولستَ صاحب الحضرميّين الَّذَين كتب اليك ابْنُ سُميّة أنّهم على دين علي (ع)فكتبتَ اليهأُقتل من كان على دينِ علي ورأيهِ، فقتلهم ومثّل بهم بأمرك، ودينُعليٍّ (ع) دينُ مُحَمَّدٍ (ص) الذي كان يضرب عليه أباكَ، والذي انتحالكَ ايّاهُ أجلسكَمجلسكَ هذا، ولولا هو كانَ أفضلُ شرفِكَ تجشّم الرّحلتَينِ في طلبِ الخُمور!.

   وقلتأُنظر لنفسكَ ودينك والامة، واتّق شقِّ عصا الأُلفة وأن تردّ الناس الىالفتنة! فلا أَعْلَمُ فتنةً على الامَّةِ أعظمُ من ولايتكَ عليهاولا أَعْلَمُ نظراً لنفسيوديني أفضلُ من جِهادكَفَإِنْ أفعلهُ فهو قربةً الى ربّي وَإِنْ أتركهُ فذنبٌ استغفرُ اللهمِنْهُ في كثيرٍ من تقصيري، وأسألُ الله توفيقي لأرشدَ أُموري.

   وأمّا كيدُك إيّاي، فليسَ يَكُونُ على أحدٍ أضرّ مِنْهُ عليك، كفِعلك بهؤلاءِ النّفرالذين قتلتَهم ومثّلت بهم بعد الصّلح من غيرِ أن يكونوا قاتلوك ولا نقضوا عهدكَ،الا مخافةَ أمرٍ لو لم تقتُلهم متَّ قبل أن يفعلوهُ، أو ماتوا قبل أن يُدركوهُ، فأبشريا مُعاوية بالقَصاص، وأيقن بالحساب، واعلم انّ لله كتاباً لا يغادرُ صغيرةً ولاكبيرةً الا أحصاها، وليس الله بناسٍ لك أخذك بالظِّنَّةِ، وقتلكَ أولياءهُ على الشُّبهةِوالتُّهمةِ، وأخذكَ النَّاسُ بالبيعةِ لابنكَ؛ غلامٌ سفيهٌ يشربُ الشّراب ويلعبُ بالكِلاب!ولا أعلمكَ الا خسِرتَ نفسكَ، وأوبقتَ دينكَ، وأكلتَ أمانتكَ، وغششْتَ رعيّتكَ وتبوَّأتَمقعدَكَ من النّار فـ {بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.

   من هذين النّصين نتعلّم؛

   ١ان يكونَ المرءُ عارفاً بكلّ التّفاصيل وبدقائقِ الامورِ اذا أرادَ ان يناقشَ اويحاورَ او يحاججَ لتأتي حجّتهُ دامغةً.

   ٢فضحُ الظّالمِ وتعريتهُ وتعداد جرائمهُ يحصّن الامّة من احتمالاتِ التّضليلوالخِداع التي يُمارسها الطّاغوت لاستغفالها.

   ٣ان يكونَ الحوارُ والمحاججةُ بالمنطقِ والدّليل القاطع بعيداً عن السّبابوالشّتائم وسياسات التّقسيط العشوائيّة، اذ يكفيكَ انَّكَ تفضح الطّاغوت فتغتالشخصيّتهُ السّياسيّة بمجرّد ان تذكر سيّئاتهِ وافعالهِ المُنكرة وجرائمهِ البشعَةِ.

   ٤لا ينبغي لعاقلٍ ان يتهرّبَ من الحوارِ أبداً حتّى مع خصمهِ وعدوّهِ، فاذاكانت الأدلّة العقليّة والبراهين المنطقيّة لا تؤثّر في الطّاغوت فلا يغيّر منسلوكهِ، فهي تؤثّر في القارئ والسّامع ولو بعدَ حين، وربّما يُسجّل حواركَالتّاريخ، كما هو الحال اليوم بالنّسبة الى هذين النّصّين، فهُما وأمثالهُما سجّلا حقائقمهمّة ومصيريّةِ لنا ربّما كانت ستختفي وقد محبتها ذاكرة التّاريخ والأجيال بفعلِتأثيرِ عمليّات غسلِ الادمغة التي يُمارسها الطّاغوت اذا لم يكن الامامُ (عقدسجّلها وثبّتها.

   ٥انّ قول (ميفيدسياسة فاشلة، فالحوارُ ينفعُ دائماً، والاحتجاج يفيدُ دائماً،ولذلك ثبّت القرآن الكريم كلّ الحوارات التي جرت بين الامم وأنبيائها بل انّهُ نقلَلنا تفاصيل الحوار الذي جرى بين ربّ العباد وإبليس عليه اللعنة، وكلّ ذلك ليقوللنا تعالى انّ الحوار واجبٌ في كلّ الأحوال، ومع الجميع.

  فبالحوارِ العقلاني والمنطقي يمكننا حلّ ما لا يمكن حلّه بالوسائل الاخرى منمشاكِلنا، خاصةً على الصّعيد الاجتماعي، الأُسرَي تحديداً.

   ٦الشّجاعة ُ مطلوبةٌ في الحوارِ، فالخوفُ والضّعفُ والجُبنُ والتردّد يفقِدُالمُحاورُ صاحب الحقّ، فُرَصٌ كثيرةٌ لتبليغِ رسالتهِ وفضح الطّاغوت.

   علّمتنا كربلاء ان التّوثيقَ يُنَشّط ذاكرة الشّعوبِ والامم، ولذلك ينبغي علينا الان اننوثّق جرائم الإرهابييّن وكلّ الجرائم التي يرتكبها نظام القبيلة الفاسد الحاكم فيالجزيرة العربية، حتّى لا يفلتَ من العِقاب ولا يخدَع المغفّلين ولا تَنسى شعوبنافيتكرّر عندها التّاريخ بأسوأ تفاصيلهِ فتقتلَ الحسين (عفي كلّ آنٍ!.