مرة اخرى : لماذا ولماذا؟

منذ القرن التاسع عشر صدرت كتب كثيرة تحت عنوان واحد: لماذا تخلّفنا وتقّدم الآخرون. من أصل النهضة في مصر إلى جورج حبش في المقاومة الفلسطينية ومن بينهما من رجال أدب وعلم وسياسة.ُطرحت أسباب كثيرة حول تقدم الآخرين وتخلفنا. وقبل أيام استضاف الزميل محمود الورواري في «منارات» على «العربية»٬ العالِم المصري رشدي راشد. تحدث الضيف الراقي عن الهزيمة والنكسة والأسباب والنتائج. وتحدث عن مصر في ظل الاستعمار. وقال من دون أن يتوقف طويلاً: كان أول شيء فعله الاستعمار هو إغلاق كلية العلوم. لا٬ تمهل لأكمل٬ إن الأنظمة الوطنية ذهبت إلى أبعد من ذلك بكثير. أغلقت كليات العلوم وأهبطت مستويات وطرق العلم. وتحول أساتذة الجامعات من أعلام إلى محسوبين وأزلام معلنين. ولم يعد النجاح مطلًبا والتألق سيرة. ولا نزال بين الأمم الأقل قراءة ومعارف. ذهبت قبل فترة في زيارة قصيرة إلى برلين. وعندما كنت أخرج إلى موقف التاكسيات٬ ألحظ ظاهرة واحدة في أي وقت من أوقات النهار أو المساء: السواقون العرب يقفون مًعا يتحدثون في أمور لا نهاية لها. والسائق الألماني٬ أو غير العربي٬ جالس خلف مقوده في انتظار دوره٬ وفي يده كتاب! ليس جريدة٬ بل كتاًبا. في هذا الصف من الانتظار أمضى يوشكا فيشر خمس سنوات ومعه كتب التاريخ. ومن هذه الكلية تخَّرج ليصبح وزير خارجية أهم دولة أوروبية٬ مبهًرا زملاءه في دول الوحدة بثقافة غنية وعلوم كثيرة. وبعد الوزارة تحول فيشر إلى واحد من أبرز الكّتاب في الغرب. لن يصبح كل سائق ألماني في هذا الصف وزيًرا للخارجية. لكنه سوف يصبح رجلاً مثقًفا ومواطًنا جديًرا بأهمية بلده وشعبه. كنت أشعر بانقباض وخيبة كلما صدف دوري مع سائق عربي. أول ما سيفعله٬ دون استثناء٬ أن يتذّمر من قانون السير٬ ومن رجال الشرطة٬ ومن المخالفات التي تعطى له على اجتياز الضوء الأحمر. لا شيء٬ لا شيء٬ يسره أو يرضيه. كل قانون هو اضطهاد شخصي له. وبدل أن يحلم بتعليم أبنائه وتحسين وضعه٬ يحلم بيوم ينتقم فيه من أهل القانون. ولا يكف عن شتم أخلاق مضيفيه وعاداتهم. وكل مرة كنت أتمنى أن تكون المسافة قصيرة والوصول قريب. فأنا لا أعرف كم هي الأسباب لماذا تخلفنا وتقدم الآخرون٬ لكن أحدها بالتأكيد٬ ليس إغلاق كلية العلوم٬ بل انغلاق العقل الرافض للنوافذ. كالخلد يخشى من الموت إن رأى النور