المقدمة العلمية



المقدمة العلمية هي أحد المصطلحات الأصولية التي يطبّقها الفقهاء في رسائلهم العملية وأود أن أسلط الضوء على هذا المصطلح الأصولي متوخياً في ذلك فائدة القارئ الكريم وخصوصاً طلاب العلم والثقافة.. 
إن المقدمة بصورة عامة يتوقف عليها ذو المقدمة كالوضوء الذي تتوقف عليه الصلاة، والسفر الذي يتوقف عليه أداء الحج.. 
حتى الاستدلال والبرهان فإن النتيجة تتوقف على المقدمة، ففي القياس هناك مقدمتان لا بد من اجتماعهما لكي تحصل النتيجة، والمقدمتان هما الكبرى(القاعدة العامة) والصغرى(التطبيق)؛ مثال ذلك: 
كل متغير حادث (المقدمة: الكبرى). 
والــعــالــم متغير(المقدمة: الصغرى). 
أذن العالم حادث (النتيجة). 
ولولا هاتان المقدمتان لم نصل إلى النتيجة. 
إن المقدمة العلمية هي مقدمة الواجب الإثباتية؛ وحيث أن مقدمة الواجب غير مقدمة الوجوب وحيث أن الأثبات غير الثبوت فإن الحاصل هو أربعة احتمالات ناتج من ضرب أثنين في أثنين.. والاحتمالات هي: 
1ـ مقدمة الوجوب الثبوتية. 
2ـ مقدمة الواجب الثبوتية. 
3ـ مقدمة الوجوب الإثباتية.
4ـ مقدمة الواجب الإثباتية. 
ولكي تتضح الفكرة أكثر لا بد من ذكر أمرين: 
الأمر الأول:(الثبوت والإثبات). 
الثبوت: هو عالم الواقع الخارجي، كنزول المطر. 
الإثبات: هو التعرف على الواقع، كالعلم بنزول المطر. 
وعلى هذا الأساس قالوا أن العلم بالشيء فرع الشيء المعلوم...
يعني: أن الواقع الخارجي(الثبوت) سبب للعلم به (الإثبات)، أي: أن عالم الثبوت أسبق رُتبة من عالم الإثبات... 
فالشيء المعلوم(كنزول المطر)، هو الأصل والعلم بالشيء(العلم بنزول المطر) هو الفرع. يعني: العلم بنزول المطر فرع نزول المطر. 
وهذا كله ينطبق على العلم الانفعالي.
الأمر الثاني:(الوجوب والواجب): 
الوجوب: هو حكم شرعي تكليفي إلزامي؛ وهو الأمر بالشيء مع المنع عن الترك. 
أما الواجب: فهو متعلق حكم الوجوب فصلاة الظهر هي متعلق الوجوب، أذن صلاة الظهر واجبة. 
ويتضح أن مصطلح الوجوب يغاير مصطلح الواجب.. لأن الوجوب هو الأمر
أما الواجب فهو المأمور به، وبطبيعة الحال فإن الأمر شيءٌ والمأمور به شيءٌ آخر. 
ولأجل تنمية الملكة أن هناك أربعة أمور هي: 
1ـ الآمر: ويعبر عنه في الشريعة بـ (المولى)، والمولى هو منْ له حق الطاعة. 
2ـ المأمور: وهو العبد أو المكلف. 
3ـ الأمر: وهو الوجوب. 
4ـ المأمور به: وهو الواجب كصلاة الظهر، ويُسمى متعلق حكم الوجوب. 
والخلاصة أن الوجوب غير الواجب, لأن الأمر شيءٌ والمأمور به شيءٌ آخر. 
وبعد هذا الإيضاح نشرع في توضيح الاحتمالات الأربعة: 
1ـ مقدمة الوجوب الثبوتية: كالتكليف والاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحج؛ لأن التكليف والاستطاعة هما يمثلان موضوع وجوب الحج هذا يعني أنهما مقدمتان للحج، فلو انتفى أحدهما أو كلاهما أنتفى وجوب الحج. 
كما هو الحال بالنسبة للصبي والمجنون والمكلف غير المستطيع فكل هؤلاء لا يجب عليهم الحج وكما يعبّر عنه المناطقة سالبة بانتفاء الموضوع.. 
بمعنى: أنه لا وجوب للحج عند انتفاء موضوعه؛ 
والتكليف والاستطاعة يمثلان معاً موضوع وجوب الحج. 
ولذلك قال الأصوليون أن مقدمة الوجوب غير واجبة. وهذه المقدمة، هي مقدمة وجوب ثبوتية لأنها في عالم التشريع وثبوتاً من مقدمات الوجوب. 
2ـ مقدمة الواجب الثبوتية: وبعد أن عرفنا معنى الواجب ومعنى الثبوت يتضح أن الواجب(المأمور به) يتوقف على مقدمة أو عدة مقدمات وهذه المقدمات ثبوتية أي: تكون في عالم التشريع أو تكوينية وكلاهما يمثلان عالم الثبوت فالسفر هو مقدمة للحج؛ والسفر هو مقدمة تكوينية، 
أي: أن الحج يتوقف على السفر لأن مناسك الحج في مكة المكرمة. 
والحج واجب(مأمور به) لأنه متعلق حكم الوجوب.. 
والسفر هو مقدمة للحج، وبالتالي فإن السفر هو مقدمة الواجب الثبوتية. 
مثال آخر: الوضوء، بالنسبة للصلاة لأن الشارع جعل الوضوء شرطاً للصلاة، أي: في عالم الجعل والتشريع وهذا يمثل عالم الثبوت. 
وحيث أن صلاة الظهر واجبة، لأن صلاة الظهر متعلق حكم الوجوب فالمأمور به صلاة الظهر. 
والوضوء يمثل مقدمة صلاة الظهر، بمعنى: أن صلاة الظهر تتوقف على الوضوء وحيث أن صلاة الظهر واجبة فهذا يعني أن الوضوء واجب لأن إيجاب شيء يستلزم إيجاب مقدمته.. 
وكذلك قال الأصوليون بأن مقدمة الواجب واجبة. والوضوء هو مصداق لمقدمة الواجب الثبوتية. 
3ـ مقدمة الوجوب الإثباتية: إن معرفة الحكم الشرعي هو مقدمة إثباتية، وبطبيعة الحال فإن معرفة واستنباط حكم الوجوب هي مقدمة الوجوب الإثباتية. إن عملية الاستنباط هي مقدمة إثباتية للحكم الشرعي.
إن للحكم الشرعي واقعاً خارجياً (ثبوت) وهذا يعني: أن التعرف على الحكم الشرعي يمثل الإثبات، وغالباً ما يحتاج التعرف على الحكم الشرعي إلى عملية استنباط (الاجتهاد)، وبالتالي فإن الاجتهاد يمثل مقدمة الحكم الشرعي الإثباتية. 
وحيث أن الوجوب هو من مصاديق الحكم الشرعي، فإن الوجوب على الأغلب يتم التعرف عليه من خلال عملية الاستنباط (الاجتهاد)..
فالوجوب له واقع خارجي (ثبوت) لأن المولى جعله على المكلف, والمجتهد يحرز هذا الوجوب عن طريق الأدلة المعتبرة والحجة الشرعية، أي: عن طريق عملية الاستنباط (الاجتهاد) وهذا التعرف على الوجوب، هو الوجوب إثباتاً. 
فالوجوب إثباتاً هو التعرف عليه عن طريق الاستنباط ؛ أي: أنه يتوقف على الاستنباط (الاجتهاد) وهو مقدمة إثباتية للوجوب وكذلك فإن الاجتهاد مقدمة إثباتية لسائر الأحكام الشرعية التكليفية والوضعية؛ كالحرمة والكراهة والنجاسة والطهارة والملكية وغيرها.. 
ولولا عملية الاستنباط لتعذر التعرف على الأعم الأغلب من الأحكام الشرعية. وبالرغم من حث الشريعة على التصدي للاجتهاد فإن الاجتهاد واجب عقلاً. 
لا كما يتوهم ويزعم بعض الجهلة من خلال تشكيكهم بعدم وجود دليل على وجوب ومشروعية الاجتهاد (عملية الاستنباط)، وحتى مع التنزل معهم جدلاً بعدم وجود دليل شرعي فإن الاجتهاد يمثل ضرورة عقلية قبل أن يكون ضرورة شرعية 
لأن طاعة الله واجبة والتي تُسمى بالامتثال وهذه الطاعة تتوقف على معرفة الأحكام الشرعية وهذه المعرفة تتوقف على الاستنباط والاجتهاد، وهي من مقدمات الواجب الثبوتية؛ ومقدمة الواجب واجبة فأين تذهبون؟ 
بل أن التشكيك بمشروعية الاجتهاد يمثل مصداقاً واضحاً للصد عن سبيل الله ودعوة إلى العصيان وعدم طاعة الله.. لأن الطاعة تتوقف على المعرفة، والمعرفة تتوقف على الاجتهاد والأستنباط .. 
وقد تبيّن أن الاستنباط (الاجتهاد) هو من مقدمات الواجب الثبوتية؛ وكذلك من مقدمات الوجوب الإثباتية بل هو من مقدمات الحكم الشرعي الإثباتية كما عرفنا فيما سبق. 
4ـ مقدمات الواجب الإثباتية: وتُسمى بالمقدمة العلمية.. 
إن وصفها بالعلمية خير شاهد ودليل على أنها إثباتية، والمقدمة العلمية هي مقدمة نحرز من خلالها العلم واليقين بحصول الامتثال للواجب كله. 
فعلى سبيل المثال: الوضوء، فإن الواجب فيه كشرط في صحته أن لا يكون هناك شيء بمقدار رأس إبرة لم يُغسل من حدود الوجه واليد؛ وإن غسل اليد في الوضوء يبدأ من المرفق إلى أطراف الأصابع وقد يحصل شكٌ في عدم دخول جزء من اليد ولو بمقدار رأس إبرة وبالتالي بطلان الوضوء.. لأن غسل هذا الجزء الصغير واجب ما دام ضمن اليد.. 
ولكي يرتفع الشك لا بد منه إدخال جزء من العضد كمقدمة علمية يحصل من خلالها اليقين بدخول كل العضو الواجب غسله.. 
إن هذا الجزء الزائد الذي دخل ضمن اليد ليس واجباً أكيداً ولو فرضنا أن الفرد يحرز دخول كل اليد بشرط لا عن الزيادة وبشرط لا عن النقيصة ففي هذه الحالة لا نحتاج إلى المقدمة العلمية لأن الواجب محرز الامتثال.. 
فالمقدمة العلمية التي من خلالها نحرز حصول الامتثال، وبتعبير آخر: أن المقدمة العلمية ينتج عنها العلم واليقين بإنجاز وامتثال كل الواجب فهي تكون نافعة في الواجبات التي لا بد من امتثالها بشرط لا عن النقيصة، فالوضوء والغسل يضر بهما النقيصة ولو بمقدار رأس إبرة.. 
ومن أشهر مصاديق المقدمة العلمية الإمساك الذي يكون قبل الفجر بعشر دقائق وهو من المقدمات العلمية لأن الصائم به يحرز الامتثال .. 
وهذا يعني جواز الأكل والشرب خلال هذه المدة بشرط أن يحرز المكلف أنه قبل الفجر. 
إن المقدمة العلمية هي مقدمة واجب إثباتية. 
وقبل الختام أود الإشارة إلى أن المصدر الأساسي لهذا البحث هو بعض دروس البحث الخارج في أصول الفقه للسيد الشهيد محمد الصدر((قدس)) لأن الأمانة العلمية تقتضي ذكر المصدر أو صاحب الرأي والفكرة حتى لا يتوهم القارئ الكريم بانتساب هذه الأفكار لي. 
نعم، أن هذه الأفكار تحتاج إلى الفهم والاستيعاب والإحاطة من قبل طالب العلم وكذلك تحتاج إلى حسن البيان ووضوح الأسلوب.. 
لأن الذنب ليس ذنب الفكرة بل هو ذنب الأسلوب والبيان والأصطلاحات على حد تعبير السيد محمد الصدر((قدس)) في أحد مؤلفاته.