مصمص ... يا بلدي !!
مصمص بلدي ومسقط رأسي التي ولدت فيها وتعلمت حروف الأبجدية في مدرستها ، وطفت في أزقتها واحيائها وشوارعها ولعبت "الطميمة" على بيادرها ، وأكلت أرغفة الخبز من طوابينها والبيض من دجاجاتها ، وشربت الماء من الجرار التي كانت النسوة يملأنها من عيونها وينابيعها : "عين القبو " و"عين الغنم" وقضيت الشبوبية مع أترابي . فكنا نحصد بالمناجل العشب والحشيش للمواشي وننصب الفخاخ لصيد "الزرعي" و"ديك السمن" في حقولها ورباها ، ونبحث عن أعشاش الطيور بين أفنان أشجارها في مناطق "البساتين" و"العماير" وحبايل الغنام " و"الشنقارة" و"خلة الكامل" و"خلة العزونة"..!!
مصمص بلد الفلاحين والكادحين والعمال الذين كانوا يخرجون من بيوتهم في ساعات الصباح الباكر للعمل الأسود في تل أبيب ورمات غان واليازور، ويسافرون في باصات / تركات غير مكيفة وغير مريحة كان يقود احداها ابن القرية المرحوم سعود صادق عبد المالك، وكانوا ينامون ويبيتون في اماكن العمل على أوراق الاسمنت ، وفي نهاية الأسبوع يعودون إلى بيوتهم وذويهم بسلالهم المحملة ب"خبز اليهود" ، الذي كنا نشتهيه ونغمسه بالزبدة العربية الأصلية المصنوعة من حليب الشياه قبل أن تدخل "تنوفا" الوسط العربي..!!
مصمص قريتي الوادعة التي لم يكن فيها سوى سيارتين ، يملكهما المرحوم حسين خليل (أبو جلال) والحاج كمال صالح (أبو رياض) ودكانين الأول للمرحوم ابراهيم محمد (أبو احمد) والثاني للمرحوم الحاج حسين محمود (أبو حاتم) . وكنا نحن الأطفال نشتري العلكة والبسكويت لذيذ الطعم ، الذي كان يصنع ويوضع في صناديق قصدير ، اما البوظة فكنا نشتريها من العم المرحوم (أبو جمال) القادم من الناصرة على دراجته مقابل ربع أغورة او بيضة بلدية ..!!
مصمص بلد الأفراح والليالي الملاح التي كانت أعراسها مهرجانات ونموذجاً للتآخي والألفة والتعاضد والمحبة ، وزفات عرسانها كانت تملأ الشوارع ، ويضرب بها المثل في الجود والكرم وتقديم الحلويات والمشروبات والمرطبات والقهوة السادة للمشاركين في الفرح .. ولا تسل كيف كان أهلها وناسها يتعاونون في بناء دور السكن وتحضير جبلات الباطون بالأيدي والطواري والجزمات ، وفي أيام الحصاد والدراس على البيادر ...!!
مصمص القلعة الثقافية وبلد العلم والمتعلمين ، فمنها خرج المعلمون الأوائل طلعت صالح شرقاوي والمرحوم يوسف عبد الخالق ، ومن رحمها بزغ الشعراء والأدباء والمتثاقفون والصحفيون وعشاق الكلمة وكتاب المقالة الأدبية والسياسية والصحفية والكلمة الزجلية والأهزوجة الشعبية ، ومنهم: المرحوم الشيخ إبراهيم محمود شرقاوي ، الذي كان يتمتع بصوت رخيم عذب ، خصوصاُ في قراءة الموالد النبوية، والشاعر الشهيد راشد حسين، والأديب المرحوم طيب الذكر نواف عبد حسن، والمبدع أحمد حسين ، صاحب "عنات" و"ترنيمة الرب المنتظر" و"الوجه والعجيزة" و"بالحزن أفرح من جديد" و"رسالة في الرفض "وغيرها ، والقاص المغمور الراحل محمد طه حسن ، الذي توقف عن الكتابة ولم يواصل المشوار الادبي وكان له مساهمات عدة في مجال كتابة القصة القصيرة نشرت في صحيفة "اليوم" المحتجبة ، في ستينات القرن الماضي ، وكاتب هذه السطور شاكر فريد حسن ، إضافة الى رياض حسين اغبارية الذي كان يكتب زاوية أسبوعية في صحيفة "نداء الأسوار" العكية المتوقفة عن الصدور ، ومحمود إبراهيم شرقاوي ، صاحب الزجليات والأهازيج الشعبية والمقالات الاجتماعية التي نشر العديد منها في صحيفة "الاتحاد" ، وأيضاً كمال حسين الذي صدر له ديوان شعر ، ود. مسعود احمد اغبارية الذي يكتب المقال السياسي ونشر الكثير من المقالات في صحيفة "الفجر" المقدسية و"الصنارة" و"كل العرب" و"الاتحاد" و"حديث الناس" . وكذلك الصحفيون عبد الحكيم مفيد وحامد اغبارية وعادل فريد اغبارية وطه اغبارية والكاتب نبيل فتحي أبو شهاب والدكتور يوسف عبد الخفيظ ، زد على ذلك الشاعر الصاعد رأفت جمال اغبارية والناشئ رشيد حاج عبد ، وغيرهم من المساهمين في الكتابة الشعرية والادبية والسياسية والصحفية .
مصمص تلك البلدة التي ازدهرت فيها لجان العمل التطوعي والحركات الوطنية والتنظيمات السياسية كالحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية وأبناء البلد والحركة التقدمية والحركة الاسلامية ، ولاحقاً التجمع الوطني الديمقراطي ، وأسست للمشروع الوحدوي ، وكانت تعج بالعمل التطوعي والنشاط السياسي المثقف ، وشهدت معارك سياسية انتخابية ساحنة للسلطة المحلية .
حقاً .. انها أيام جميلة لا تنسى وحياة بسيطة كخبز وأكواخ الفقراء ، بينما اليوم أصبحنا مستهلكين وأسرى لثقافة استهلاكية متعولمة ، وأخذ الوعي السياسي يتراجع وينحسر ، والقيم الجماعية في خبر كان ، وأصبح الناس يركضون ويلهثون وراء المادة والمال ، ومهووسين بالمظاهر الزائفة الكاذبة ، والمراءاة والتفاخر والتنافس فيما بينهم . وتسربت بين الشباب مظاهر سلبية مرفوضة كالسياقة بتهور وارتياد مقاهي لبنرجيلة ورفع صوت المسجل في الشوارع ، وانعدمت الثقافة رغم كثرة المعلمين والمتعلمين وبتنا مجتمعاً بلا مثقفين .. فهل يعيد التاريخ نفسه من جديد ..؟ انه حلم بعيد المنال ..!