العراق تايمز: كتب العلامة الشيخ عباس الزيدي
هل لنا أن نتسائل عن السر وراء الحملة التي قام ويقوم بها (سليم الحسني) أحد أعضاء أو قياديي حزب الدعوة فرع (الملكة اليزابيث) في هذا التوقيت، فهذا الرجل الذي شارك مع أبناء حزبه في السلطة لعام أو أقل، في سنة الجعفري، سكت دهراً ثم عاد ليظهر من جديد بحلة (مرتضى الكشميري) الوارفة، ليحظى بالبركات من قبل كبيرهم، وقد رافقته في هذه الحملة مباركة وتأييد لا يخفى على أحد من بعض كبار المسؤولين (.......) الذي عبَّرت مواقعه الألكترونية عن ذلك بوضوح. سنجد أن محاولة سليم الحسني تهدف إلى عدة أهداف، منها ضرب المرجعية المقاومة لهيمنة الأدعياء والدخلاء وأذناب المحتل، لأنها تمثل الامتداد الطبيعي لمدرسة الشهيدين الصدرين وليس المدعين لها من هؤلاء سياسيين، كما أنها تهدف إلى محاولة تبرئة تاريخ الحزب وتنقيته وإعادة الحياة إليه بعد أن غدا جثة هامدة، كما قال الشاعر :
عجوز ترجى أن تكون فتية * وقد لحب الجنبان واْحدودب الظهر تدس إلى العطار سلعة أهلها * وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر.
وقد أسهب سليم بالحديث عن الاتجاهات الاسلامية في العراق ما بعد السقوط، غير متناس حزبه، بدعوى النقد الذاتي، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لغرض الإصلاح، ما دمنا نعيش هذه الأيام صيحة الإصلاح، التي يتزعمها كبار المفسدين في البلد منذ سقوطه إلى هذه اللحظة. وحديثه عن الأحزاب والسياسيين سنترك ردَّه للسياسيين، وما يهمنا هنا هو حديثه عن مرجعية الشيخ اليعقوبي، الذي نال من هجومه حصة الأسد، وهو يعبر دون شك عن الأزمة النفسية التي يعاني منها وقيادات حزبه تجاه مرجعية الشيخ اليعقوبي، وهو أمر لا يخفى على المطلع، ولأسباب سنأتي عليها في حينه، بإذن الله تعالى.
لذلك ستكون إجاباتنا عن الإشكاليات التي طرحها سليم واحدة واحدة، وفي نفس الوقت سنرى مدى التناقضات التاريخية المخزية لحزبه في موضوع المرجعية. يذكر الحسني أنه التقى يوما الحاج كريم اليعقوبي، ودار بينهما حديث وفيه قضيتان :
الأولى : وصف الحسني بأن الحاج كريم اليعقوبي صهر المرجع اليعقوبي، وأنه طلب منهم مليون دولار، بعد أن عرف أن الجعفري استلم أربعة ملايين دولار من الكويت، ويذكر لنا الحسني هنا موقفه الوطني المهني الشريف، حيث عبر عن استهجانه لهذا المطلب، وأنه ينبغي أن تصرف أموال الدولة عبر القنوات السليمة.
والثانية : أن الحسني استدل بعبقرية أن الشيخ اليعقوبي من (مراجع الصدفة) حسب تعبيره، ومع أن التعبير خاطئ، إلا أننا نستطيع أن نفهم ونوجَّه مراده من هذا التعبير، بأنه يقصد من أدعياء المرجعية، بدليل أنه لا يمتلك شهادة بالاجتهاد من أستاذه الصدر الثاني، واستدلاله جاء من خلال كلام عابر لكريم اليعقوبي.
بداية من الواضح أن الحديث يشبه حديث مقهى عابر، والذين يقفزون على مثل هذه الأحاديث ما أسرع ما يسقطون فينكشف ما خفي من سوءاتهم، ويفتحون على أنفسهم أبواب جهنم التي كانت مغلقة بعد أن طواهم النسيان.
فأما القضية الأولى : والتي تدل على أن الحسني من رواد أحاديث المقاهي، قوله أن كريم اليعقوبي صهر المرجع اليعقوبي، وهذا دليل على أنه لا يكلف نفسه عناء التحقق عن معلومة بهذه البساطة، فالحاج كريم اليعقوبي هو من أصهار السادة آل المؤمن، وهو ابن عمة سماحة المرجع لا غير، وكان يمكنه التواصل مع الكثيرين ممن يعرفون الحوزة وخصوص الشيخ اليعقوبي في لندن أو غيرها ليتحقق من الأمر. ولكن يبدو أن تعلق أذهان هؤلاء بأن المقربين دائماً هم من الأصهار كما هو الحال في جواد الشهرستاني (هندي الأصل) الآمر الناهي في مدينة قم، ومرتضى الكشميري في لندن، اللذين هما من الأصهار. ولن أتوقف عند هذه المسألة لتفاهتها كما هو شأن صاحبها.
أما قضية الملايين الأربعة، وطلب الحاج كريم اليعقوبي واحداً منها، فعلى فرض صحتها، ونحتاج التأكيد من قبل إبراهيم الجعفري لنعرف حالها، فهي قد انتهت إلى أن المليون لم يخرج من جيب الجعفري إلى جيب الفضيلة، كما أن علينا أن نتسائل، هل هذه الملايين، هدية لشخص الجعفري أو مساعدة للشعب العراقي؟، ومن الواضح أنها (في حال صحتها) هدية شخصية، وهنا لا بد أن تكون المسائلة للجعفري عن وجه هذه الهدية، وهو في منصب رئيس الوزراء، لدولة هي من أكبر الدول المصدرة للنفط، وهل هي رشوة لقاء عمل معين؟، ولحقد سليم وتسرعه فإن تصريحه بهذه المعلومة لا يدين الحاج كريم اليعقوبي، فهو أخيراً لم يأخذ منها شيئاً، ولكنه ما أدان سيده وولي نعمته الجعفري. بأعتبار أن سليم الحسني تولي منصباً إدارياً في وزارة الجعفري.
وأما القضية الثانية وهي الأهم : قضية شهادة الاجتهاد التي استطاع سليم أن يعرف بعبقريته أن الشيخ اليعقوبي لم يحصل عليها، ولنقف مع نص كلامه :
((سألته عن الشيخ محمد اليعقوبي، وهل حصل على شهادة اجتهاد من السيد الشهيد الصدر الثاني قدس سره. أجابني بالقول: لا توجد شهادة اجتهاد، ولكن السيد الشهيد قال للشيخ اليعقوبي انه لو يستمر في حضور ابحاثه ودروسه فانه يتوقع له ان يصل الى الاجتهاد. وعليه فنحن نعتبر ان هذا الكلام هو شهادة اجتهاد للشيخ. ثم اخرج من حقيبته عدة كتب اهداها لي، وقال هذه مؤلفات سماحة الشيخ اليعقوبي أرجو ان تتطلع عليها. كانت الكتب مطبوعة بحروف كبيرة وبأسطر متباعدة على غير المألوف في النسق السائد في طباعة الكتب)).
بداية كان يفترض على الحسني ونحن في هذا العصر الحديث أن يبحث أكثر ليصل إلى معلومات أكثر فربما فاته شيء حول مسألة الاجتهاد من عدمها، أضف إلى ذلك فأصدقاؤه من أبناء حزبه تسيدوا البلاد طولاً وعرضاً فكان من الممكن أن يتواصل مع بعضهم لتتضح له الأمور، على الأقل ليأتي بأدلة واضحة على عدم اجتهاد الشيخ اليعقوبي، ولكنه جاء بدليل باهر وهو (كلام كريم اليعقوبي) والحاج كريم لم يدَّع الرجل في يوم من الأيام أنه من طلبة الحوزة أو أفاضلها، وليس من أصحاب هذا الشأن وإنما تكلم بما دار في خاطره ومدى اطلاعه وفهمه للأمور، والحسني خانه التعبير لجهله بطبيعة المصطلحات المتعارفة في الحوزة، ولكن من النادر أن تجد في الكيانات المغلقة شخصاً يتواضع ويعترف بجهله أو يكلف نفسه عناء السؤال من أهل المعرفة بالشأن. فالمفترض أنه يتحدث عن إجازة الاجتهاد، وهي إجازة تمنح عادة خطية أو شفوية من قبل الأستاذ المجتهد إلى أحد طلبته، أما الشهادة فهي تكون لأهل الخبرة سواء كانوا من المجتهدين أو أفاضل الحوزة من المؤهلين لذلك.
وقبل الخوض في كلمات الشهيد الصدر الثاني الدالة على اجتهاد الشيخ اليعقوبي، نتحدث عن إجازة الاجتهاد، وأفضل ما نستدل به هو منهج الشهيدين الصدرين، باعتبارنا ننتمي لهذه المدرسة، كما أن الحسني يدعي هو الآخر مع حزبه الانتماء إليها، وسنثبت بالمصادر أن هذا الإنتماء ليس واقعياً.
كَتبتُ في حياة الشهيد الصدر الثاني أكثر من موضوع للدفاع عن مرجعيته، وكانت كلها تصدر من دون اسم لظروف يعرفها كل من عاش في العراق ذلك الوقت، ولحساسيتها أيضاً، ولكن كل أتباع الصدر الثاني (تقريباً) يعلمون بذلك، خاصة أعضاء مكتبه والمقربين منه كسماحة الشيخ اليعقوبي، كما أنني كنت أسلمها بيد السيد الصدر، ويتولى طباعتها نفس المكتب، وكان بعض أبناءه أو أقاربه يقومون بصف الحروف بأنفسهم، وبعضها كان شديد اللهجة فأمر السيد الصدر أن تُصف حروفه خارج المكتب، فتولى مهمة ذلك الشيخ الشهيد محمد النعماني والشيخ علي الدفاعي النعماني بطريقتهما، المهم أن بعض هذه الإصدارات كانت من مرجعاً لكُتَّاب خارج العراق في ذلك الوقت، كما فعل عادل رؤوف في كتابه (مرجعية الميدان) حيث حصل على نسخة منها وهو (دفاع عن المرجعية) واستدل ببعض ما جاء فيه، وشاهدنا: من الإصدارات (حوار حول المرجعية) بجزءين، وقد أشاد السيد الصدر بهما خاصة الأول وله تعليق عليه يعرفه المطلعون، وهم ليسوا بالقلائل، وقد جاء في هذا الجزء نص للسيد الصدر عن قضية إجازة الاجتهاد، وأنقله هنا بالحرف:
((إجازة الاجتهاد ليست سبباً لوجود الاجتهاد وإنما هي سبب للتعرف عليه، وهي في هذه الأيام قابلة للتلاعب والتزوير والضغط، مضافاً إلى دخول الوهم والعناوين الثانوية لمن أعطاها. ولذا نراها بيد من ليس لها أهلاً (قطعاً) غفر الله لنا ولهم، فمن هنا كان ديدن بعض أساتذتي على الاستغناء عن هذه الشهادة واثبات الأمر بكدِّ اليمين وعرق الجبين كما يقولون. وأنا رجَّحتُ هذا المسلك وسرتُ عليه، فلم أطلب من أحد شهادة اجتهاد، مضافاً إلى ظروف التقية الصعبة طيلة حوالي عشرين سنة منعت من طلبها والحصول عليها))
وهنا عدة أمور: أن الشهيد الصدر الأول فالثاني لم يعيرا مسألة الاجازة أي اهتمام للأسباب التي ذكرها السيد الصدر أعلاه، وعنصر الفصل هو الجهد الذي يقدمه التلميذ ومستواه هو الذي يحدد استحقاقه للاجتهاد من عدمه، ولو عدنا إلى تاريخ الصدر الأول سنرى أنه هو الآخر لم يحصل على الإجازة بهذا المعنى المتعارف، وإنما أخبره أستاذه الشيخ عباس الرميثي أنه لا يحل له التقليد بعد الآن، ولكن لم تكن هذه العبارة الموجزة هي الدليل على عبقرية وعظمة واجتهاد الصدر الأول، ولم يشك أحد للحظة بأنه مجتهد، حتى أن أستاذه السيد الخوئي يتعامل معه على أنه مجتهد، مع ذلك لم يمنحه إجازة الاجتهاد الخطية المعروفة، لسبب واضح أنها ستكون بمثابة لغو لا معنى له، وهنا قد يقول قائل فلماذا منح الصدر الأول إجازة خطية للسيد محمود الهاشمي مادام لا يسير على المسلك التقليدي؟، وجوابه : السبب هو أن السيد الهاشمي مجتهد دون ريب، ولكن منحه الإجازة الخطية لكونه كان مبعوثه إلى إيران، بالتالي يحتاج إلى توثيق من قبل أستاذه، وفي الحقيقة أن هناك في إيران في ذلك الوقت من كان يتعامل مع الصدر الأول على أنه فاضل من فضلاء الحوزة وليس مجتهداً بدليل أنهم خاطبوه بـ(حجة الإسلام والمسلمين) ولكنه تحول بعد أشهر (أي عند مقتله) إلى (آية الله العظمى)؟!!، (أنظر محمد رضا النعماني، سنوات المحنة وأيام الحصار) ونفس الأمر مع تلميذه الصدر الثاني الذي كان أعلم بلا ريب من السيد محمود الهاشمي، فهو الآخر لم تكن عنده إجازة خطية لأنها ستعتبر لغواً أو ليست من مسلكه أو مسلك أستاذه، مع ذلك فقيمته العلمية لا يشك بها إلا جاهل أو حاقد، إذ لم تعترف به المعارضة (الإسلاموية سواء في طهران أو قم أو دمشق) ولم يتورعوا عن تسقيطه، خلا بعض الأشخاص ممن يعرفونه ولم يخشوا شيئاً في سبيل دعمه بما استطاعوا، أمثال الشيخ الشهيد مهدي العطار والسيد فاضل النوري والشيخ مرتضى الساعدي والسيد ياسين الموسوي وغيرهم، ونفس الكلام يقال عن مرجعية الدعوة حتى وفاته (المرحوم السيد محمد حسين فضل الله) فهو الآخر لم تكن عنده أية إجازة بالاجتهاد من أساتذته، خاصة الصدر الأول، ألم يكن من المفترض على سليم الحسني وقادته أن يتوقفوا قليلاً عند ذلك؟، ام تصدق عليهم الحكمة الإنجيلية (ترى القشة في عين أخيك ولا ترى الجمل في عينك)، مع ذلك ليس لنا أن نشكك في اجتهاد السيد فضل الله (قدس سره)، وقد دعمه المرجع اليعقوبي بكل ما يستطيع، مع أنه لم يكن بحاجته، وعندما توفي أصدر بياناً تأبينياً مشيداً بمسيرته العلمية وحركته الجهادية وعمله الدؤوب المثمر في لبنان وغيره من بلدان العالم، في نفس هذا الوقت لم يصدر من مجتهد آخر أي بيان (حسب علمي) في تأبينه، بل صدر خلاف ذلك، فقد حرمت بعض المرجعيات السير في جنازته وتشييعه، ومنها المرجعية التي يعظِّمها سليم الحسني وحزبه منذ سقوط صدام، ويسيرون خلفها ويتلقون التوجيهات منها، ويستمدون منها الدعم المادي والمعنوي لإسقاط رمز الحوزة النجفية، ولكنهم يعودون فيختلفون، لأنهم اجتمعوا أساساً لأهداف دنيئة وهي نهب البلاد والتسلط عليها.
ويا حبذا لو كان سليم الحسني على شيء من شرف الكلمة أن يذكر الأمور كما هي، فهل يستطيع أن يذكر لنا الأسباب التي دعت (محتشمي وخوئينها ومحمد منتظري) وغيرهم في اعتبار السيد محمد باقر الصدر عميلاً للغرب؟، (أنظر كتاب السيد محمد باقر الصدر سيرة ومسيرة، للعاملي، وقيادة الحركة الإسلامية في العراق، عباس الزيدي وهادي الزيدي).
وبمناسبة الحديث عن المرجعية ودعواهم أنهم (حزب إسلامي) وأن الدعوة قبل سقوط النظام هو بأعلى مستويات النقاء والإلتزام بالخط الرسالي، وأن الأمور تغيرت بعد استلام السلطة، فهل يبين لنا الحسني قصة كتاب (قرار الحذف) الذي كتبه السيد كاظم الحائري مرجع الدعوة لسنوات طوال، وهل أن قرار حذف الفقيه من مصدر القرار جاءت من أسس وأسباب شرعية أو قرار من الحزب (فرع اليزابيث)؟، مع العلم أن قرار الحذف صدر سنة 1989، ولنعد مرة أخرى للتأريخ، لنرى هل حقاً كانت قيادة حزب الدعوة متبنية للأسس الشرعية، في عام 1960 عندما انسحب السيد محمد باقر الصدر من الإشراف على حزب الدعوة ((كان ردُّ الحاج عبد الصاحب دخيل (أحد أبرز قيادات الحزب) : ((فلنتوكل على الله ونستمر، إن هذا العمل ينبغي أن لا يعتمد على الأشخاص)). صلاح الخرسان، حزب الدعوة حقائق ووثائق 121. إذن محمد باقر الصدر مجرد شخص، لا يتأثر به الحزب أو يعتمد عليه.
((لذلك كان بعض الفضلاء كـ(الشيخ عبد الهادي الفضلي) من أعضاء حزب الدعوة قد طالب بعد ذلك بضرورة وجود مجتهد داخل التنظيم لضمان سلامة خط سير الدعوة من الناحيتين الايديولوجية والسياسية، ولكن طلبه رُفض وأصدر الشيخ عارف البصري قراراً بفصله من الحزب)). صلاح الخرسان 122.
ليس هذا فحسب، بل حصلت انعطافة خطيرة بعد انسحاب الصدر الأول، وتحقق ما خشي منه الشيخ الفضلي ((ومارس بعض القياديين سلطة ديكتاتورية مطلقة على مستوى التنظيم والتنظير مما أدَّى الى إهمال حزب الدعوة لفكر أهل البيت في نشراتها)). الخرسان 138. وهذه القيادة الديكتاتورية المشار إليها ماهو إلا هادي السبيتي، الذي رفعه سليم الحسني إلى مستوى الأنبياء. (أنظر الخرسان 41).
فأي كلام عن المرجعية من قبل الدعاة سيكون معارضاً لتأريخ الجزب في رفض المرجعية بل وتسقيطها لعقود إلى هذه اللحظة. والحديث عن إجازة الاجتهاد يتماهي مع المستوى الشعبي، إذ ليس هناك في شروط المجتهد شرط الإجازة من الأستاذ، بل يجب الرجوع إلى أهل الخبرة في ذلك، ومع التعارض وهو ليس بقليل، ولا يخلو مجتهد من وجود تعارض في الشهادات حول اجتهاده أو عدالته، عندها لا بد من الرجوع إلى بحوثه، وبداية تكون بحوثه التي قدَّمها لأساتذته والتي تُعرف بـ(التقرير) منطلقاً لتكوين فكرة عند أستاذه عن مستواه، ولو عدنا إلى أول تقارير سماحة الشيخ اليعقوبي لدرس أستاذه، والذي كان في درس الأصول (بحث المشتق) نجد التعابير التالية التي تدل على أن الشيخ اليعقوبي مجتهد أو مقارب للإجتهاد منذ وقت مبكر من حياة أستاذه، حيث ذكر بوضوح أن سماحة الشيخ اليعقوبي ((يسير سيراً حثيثاً نحو الاجتهاد)) كما جاء في هذا التقديم أنه يدعو الله أن يجعله من المراجع الطيبين والقادة المخلصين، أنظر مقدمة بحث المشتق المطبوع في حياة السيد الصدر، ونقراً ما جرى بعد ذلك، كما ذكر سماحة الشيخ اليعقوبي : ((لما كتب (قدس سره) تقريضه لكتاب المشتق عند الاصوليين الذي جعل (قدس سره) القسم الاول منه الجزء الثاني من موسوعته الاصولية (منهج الاصول) عرض ما كتبه عليَّ لطفاً منه وادباً وسألني إن كان لديَّ تعليق. وبعد ان اعتذرت من تواضعه علّقت على الفقرة الاخيرة من الكلمة التي يدعو الله فيها ان يجعلني من المراجع الطيبين والقادة المخلصين، فقلت ان هذه الفقرة تسلّط الاضواء عليَّ والوقت ما زال مبكراً، فقال (قدس سره): انا متعمد لتثبيت هذه الفقرة لانني حينما اموت سوف لن أكون موجوداً حتى اقول لهم ارجعوا الى محمد اليعقوبي. كان ذلك في شهر رمضان سنة 1418)). الشهيد الصدر الثاني كما أعرفه 76. وجاء في حوار مشهور ومتوفر معه (قدس سره) : ((( من ناحية التقليد أنا اعتقد أن الأعلم على الإطلاق بعد زوالي عن الساحة جناب آية الله العظمى السيد كاظم الحائري الشيرازي، ولكنه حسب فهمي انه لا يتسنى له النظر في أمور الشعب العراقي، لأنه غير موجود هنا ولا اعتقد انه يتيسر له الرجوع إلى العراق، فمن هذه الناحية يحتاج الشعب العراقي لو صح التعبير إلى قيادة لا تمثل التقليد يقلدون شخصا ويأتمرون بأمر شخص آخر بعنوان الوكالة أو بأي عنوان لكي يرتبهم، الشيعة والحوزة لا تكون بدون ترتيب وإذا لم ترتب تقع بأيدي ناس ليسوا لهم أكفاء ماكرين وطلاب دنيا بشكل من الأشكال، على أية حال فتوخيا لدفع أمثال هذه النتائج المؤسفة والمزعجة ينبغي إيجاد قيادة دينية في داخل الحوزة، لأجل التفاف الناس حولها واستفادة الناس منها، فان الله تعالى ـــ يعني ــــ مد في عمري لو صح التعبير وبقيت عدة سنوات أخرى فيوجد بالتأكيد هناك من طلابي وممن أتوخى منهم الإخلاص والتعب على نفسه والاجتهاد يحصل هناك عدة مجتهدين بعون الله سبحانه وتعالى، جملة منهم نستطيع أن نقول طيب القلب وخبير وورع ونحو ذلك قابل لان تحول عليه القيادة الحوزوية ولربما في ذلك الحين يكون هو الأعلم نحن لا نعلم بالمستقبل من الذي يكون اعلم أنا قلت أن جناب السيد كاظم الآن هو الأعلم له باب وجواب، أما في حينه لعله سيكون بعض طلابي هو الأعلم ليس مجتهدا فقط بل الأعلم، فحينئذ يجب الرجوع إليه تقليدا وقيادة لو صح التعبير وانتهى الحال)).
وهنا عدة أمور : ــ أن المعني من (طلبته) بالإجماع هو سماحة الشيخ اليعقوبي، وهذا الإرتكاز لا يشك فيه إثنان من أتباع الصدر الثاني، ومن هنا طلبت أسرة الصدر الثاني من سماحته أن يتولى تجهيز جثمانه الطاهر بعد الاستشهاد والصلاة عليه.
ــ تأكد وتأكيد السيد الصدر أن هناك من طلابه من بلغ الاجتهاد أو قارب على ذلك، بقوله : ((فيوجد بالتأكيد من طلابي)).
ــ أن السيد الصدر خصَّ من بين كل طلابه سماحةَ الشيخ اليعقوبي بدعاءه له أن يجعله من المراجع الطيبين...، وربما قد يقال هنا : أن السيد الصدر دعا، وليس بالضرورة أن يستجاب أو يتحقق دعاؤه، كما أنه قال : ربما يكون أحد طلبتي.. قابل لأن تحول عليه القيادة الحوزوية، ولربما يكون هو الأعلم. وهنا قال : ربما. وهو احتمال ليس بالضرورة أن يتحقق. وجواب ذلك : أن من يعرف السيد الصدر وعاش معه يعرف أسلوبه في تمرير ما يريد، فهو عندما تحدث عن السيد كاظم الحائري كان جازماً بعدم قدرته على النظر في أمور الشعب العراقي، وعدم عودته للعراق. فهل كان الصدر يعلم الغيب، فقد سقط النظام ولم ولن يعود الحائري حياً للعراق. طبعاً ليس الأمر كذلك وإنما قراءة السيد الصدر الدقيقة للشخصيات وطبيعة الأحداث والظروف التي يمر بها الآخرون جعلته يشخص بدقة، لذلك اختياره للحائري لأسباب من أهمها :
ــ علمه أنه لن يرجع بالتالي لن يشكل مشكلة أمام المرجع القادم.
ــ تحويل الأنظار إليه بالتالي لن يتعرض المرجع القادم للضغط سواء من قبل الحوزة أو النظام.
ــ رفضه المطلق للأسماء الموجودة في النجف، فلو كان فيهم من هو مؤهل للمرجعية والقيادة لأشار إليه، باستثناء الشيخ الفياض الذي يعتبره السيد الصدر محطة نقف عندها في أوقات الاضطرار، وبالفعل حصل ذلك، ولكن فقط وفق المعلن، ولم يكن أتباع السيد الصدر يرجعون اليه بالتقليد في يوم من الأيام. نفهم الآن ما وراء تعبيره بـ(ربما، لعله) ومما يعزز ذلك تصريح السيد الصدر لاحقاً ((الآن أستطيع أن أقول أن المرشح الوحيد من حوزتنا هو الشيخ محمد اليعقوبي، إذا شُهد له بالاجتهاد وبقيت الحياة فأنا لا أعدو عنه إلى غيره، هو الذي ينبغي أن يمسك الحوزة من بعدي)).
وقد يعترض البعض هنا بقول السيد الصدر (إذا شُهد له بالاجتهاد)، أي أنه لم يشهد بذلك، وهذا غير صحيح، لأنه قدس سره أراد شهادة خارجية بدليل صيغة المبني للمجهول (شُهد) فمن الذي يشهد؟. إنه يعني بذلك شهادة من خارج خطه لتعزز كلماته بحقه، فإذا كان السيد الصدر لا يراه مجتهداً ذلك الوقت فلا معنى لكلامه بشهادة الآخرين التي لن تغني، لأنه لم يكن يعير الكثير من الشهادات أية أهمية كون معظمها جاء بالترغيب أو الترهيب. ولأن الشيخ اليعقوبي، حسب الصدر أيضاً ((هو الذي ينبغي أن يمسك الحوزة من بعدي)). وليس غيره، لأن الصدر لا يرى غيره أهلاً لذلك، ولو وُجد شخص واحد لأشار إليه. ويجب أن نلتفت إلى صدر الحديث : ((الآن أستطيع أن أقول أن المرشح الوحيد من حوزتنا هو الشيخ محمد اليعقوبي))، فلماذا قال (الآن)؟، لقد أصبح السيد الصدر على قناعة تامة، وهو صعب الإقتناع عادة، بأن الشيخ اليعقوبي قد تجاوز بنجاح الإمتحان، وأنه حاز على الاجتهاد المطلوب، إلا أن هذا لا يكفي، بل يحتاج إلى اعتراف من الآخرين، وذلك حتى لا يتعرض لما تعرض له من التشكيك أو التسقيط، فقد حاصرته كل الحوزات من دون استثناء، وهو ما لا يريده لخلفه، خاصة أنه ذكر بصراحة أنه يخشى سقوط الحوزة بيد أناس ((ماكرين وطلاب دنيا))، فمن يعني بهم يا ترى؟، لقد انقلبت الموازين فصار هؤلاء الماكرين هم الرمز، وصار من قاتل وأسقط مرجعية السيد الصدر أولى من (ناصره يوم شدته) حسب تعبير السيد الصدر، حيث كان يتحدث عن سماحة الشيخ اليعقوبي، فأية مهزلة هذه التي نعيش.
وفي نشوة من الفرح اكتشف سليم الحسني أنه وجد ثغرة ليهاحم منها سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) وذلك في أمرين أنه اطلع على بعض المؤلفات فكانت المشكلة التي عثر عليها أن حجم الخط أكبر من المألوف، ويا لها من مثلبة عثر عليها!. مع أنه لم يشر إلى مضامين كتابات المرجع لنرى مستوى الطرح حسب رأيه، إلا أنه لم يخف فرحته بالعثور على خطأ تاريخي بزعمه، والأمر الثاني قوله : ((وبعد فترة من الزمن تابعت منشورات الشيخ اليعقوبي فقرأت له موضوعاً يتحدث عن المرجعية والسياسة وفيه يقول ما نصه: (وكان السيد الشهيد يعلن انتماءه إلى الخط الأول كأستاذه الشهيد الصدر الأول (قدس سره) والسيد محسن الحكيم والميرزا النائيني الذي آزر أستاذه الآخوند الخراساني في حركة الدستور المعروفة بالمشروطة أوائل القرن الماضي). إن مما يبعث على الاستغراب حقاً، ان لا يعرف الشيخ محمد اليعقوبي، أساتذة الميرزا النائيني، فلم يكن الاخوند الخراساني من اساتذته ولم يتتلمذ عليه، إنما تتلمذ على الشيخ محمد حسن الشيرازي في سامراء، كما أنه في حركة المشروطة لم يكن تابعاً للخراساني، بل هو أبرز قادتها ومنظرها الأول في كتابه الشهير (تنبيه الأُمّة وتنزيه الملّة). وعندما أوردُ هذه النقطة فلأنها مهمة وذات صلة بالبحث العلمي، فالشيخ محمد حسين النائيني هو من أعاظم الأصوليين، وهو أستاذ السيد الخوئي والسيد محسن الحكيم وكبار فقهاء الشيعة في القرن الماضي، ولا يمكن للبحث الأصولي ان يسير من دون المرور على آرائه والتي صارت تعرف بـ (المدرسة النائينية).)).
أما قضية الخط الكبير (يا مفكر الدعوة) فأنت معذور فيه حيث تربيت وتغذيت من ثدي بريطانيا ولن تجد مثل هذا العناء في عاصمة حزبك الأبدية، أما في العراق فليتك ترى مطبوعات ومؤلفات الشهيد الصدر الثاني حيث كانت تطبع على ورق (الصحف) التي ما أسرع ما تهترئ، نعم هذا هو حال الطباعة في العراق تلك الفترة، ولم يكن عندنا منافذ للطباعة في لندن أو بيورت كما هو المرجعيات التي تعظمها، ولكن ليأتي اليوم الحسني والشابندر ومن سوَّل لهما ليريا القيمة العلمية لبحوث المرجع على المستويين الفقهي والفكري. ولن أطيل الكلام هنا فأهل الخبرة وفضلاء الحوزات سواء في النجف أو قم أو بيروت يشيدون بها. ولسنا بحاجة لتقييمات هؤلاء المرضى.
أما الأمر الآخر الذي لا يكشف عن جهل هذا المتنطع فحسب بل عن الجرأة في الجزافية واعتبارها من المسلمات، فهل حقاً لم يكن الآخوند أستاذا للنائيني، وهل بالفعل لم يكن النائيني وغيره أتباعاً للخراساني في حركة المشروطة؟. لنقف أمام مصادر التأريخ عن هذين العلمين لنرى :
ذكر الشيخ عباس القمي : ((وكان الشيخ محمد كاظم الخراساني قد استقل بالتدريس على عهد السيد المجدد ولما توفي زادت تلامذته وعظم شأنه وأصبحت بين المترجم له (أي النائيني) وبينه رابطة أكيدة واختصاص وثيق ، وصار من أعوانه وأنصاره في مهماته الدينية واتفق ان حدث أمر النهضة وتبديل حكومة إيران الاستبدادية إلى الدستورية وكان زعيم هذه النهضة شيخنا الخراساني وذلك في ( 1324 ) فوقف معه المترجم له جنبا لجنب لأنه كان يرى رأيه وكان يومذاك من أكبر الدعاة إليها ، وألف بالفارسية كتابه الموسوم.... ( تنبيه الأمة ) وتنزيه الملة وطبع في ( 1327 ) وقرضه كل من الخراساني والشيخ عبد الله المازندراني وغيرهما)) عباس القمي، نقباء البشر 2 : 593. والشيخ أغا بزرك الطهراني، الذريعة الى تصانيف الشيعة 4 : 441.
وذكر السيد العاملي : ((وكان الملا كاظم الخراساني قد استقل بالتدريس في حياة الميرزا الشيرازي وزادت حلقة درسه بعد وفاة أستاذه المذكور وكان يعقد في داره مجلسا خاصا لأجل المذاكرة في مشكلات المسائل يحضره خواص أصحابه فكان المترجم (أي النائيني) يحضر معهم ولم يحضر درس الملا كاظم العام)). العاملي، أعيان الشيعة 6 : 54. تحقيق وتخريج حسن الأمين، دار التعارف، بيروت.
وأكد السبتي في دراسته التاريخية عن الآخوند عند تعرضه لطلبته : ((الميرزا محمد حسين النائيني.... شد الرحال بعدها الى سامراء سنة 1884 حيث وجود المرجع الكبير والمجدد محمد حسن الشيرازي، وأثر وفاة الأخير انتقل الى كربلاء المقدسة سنة 1897، حيث التحق بدرس الملا محمد كاظم الآخوند الخاص المنعقد في داره ليلاً، وليس درسه العام، وقد أولاه أستاذه الآخوند ثقته واهتمامه الكبيرين، حتى أنه كلَّفه بالرد على الأسئلة والاستفسارات الواردة اليه من داخل العراق وخارجه في شتى الموضوعات الشرعية والفقهية، ولشدة التساقه بأستاذه عدَّه البعض بمثابة سكرتيراً له)). وهنا يذكر السبتي أن مصدر حديثه هذا من مقابلة منشورة مع حفيد النائيني (جعفر النائيني) أستاذ في حوزة قم سنة 2006.
وعن المشروطة : ((تميز الميرزا محمد حسين النائيني عن أقرانه من طلاب الآخوند بنشاطه السياسي المبكر، فقد كان من أشد المناصرين لأستاذه أيام الثورة الدستورية الإيرانية، كما دعمها فكرياً من خلال تأليفه لكتابه المعروف "تنبيه الأمة وتنزيه الملة" لدعم أفكار المشروطة واثبات شرعيتها الاسلامية، فحظي بتأييد وتقريض أستاذه وبعض من كبار العلماء كان منهم الشيخ عبد ال لدعم أفكار المشروطة واثبات شرعيتها الاسلامية، فحظي بتأييد وتقريض أستاذه وبعض من كبار العلماء كان منهم الشيخ عبد الله المازندراني)). عدي محمد كاظم السبتي، محمد كاظم الاخوند دراسة تاريخية 131 ـ 132. الطبعة الاولى 1431 هـ ـ 2010 م، جواثا للنشر، بيروت.
وأدع باقي الكلام للقارئ لينكشف له ضحالة هؤلاء المختلين، وننتظر المفكر الآخر!؟ الشابندر ليخرج لنا بما وعد سليم الحسني، وعندها سيكون لنا كلام من نوع آخر، وأدلة ليس على تابعية هؤلاء لبريطانيا، بل سننبش في تاريخ حزبهم والمرجعيات التي ينتمون إليها، وما فعلوه مع مرجعيات عظيمة كالشهيدين الصدرين وغيرهما، بل سنكشف عقيدة القوم الإخوانية الوهابية (القاعدية)، وسنرى أينا أقصر باع وأضعف جنداً، وإن غداً لناظره قريب.
|