راكبة الدراجة

تحل بعد أشهر قلائل الذكرى العشرون لرحيل فرنسوا ميتران. وكان الرئيس الفرنسي الأسبق سياسًيا إشكالًيا عاش حياة مثيرة تكتنفها أكثر من فجوة غامضة. لذلك ظهر عنه أكثر من 200 كتاب وأدلى كل رفاقه وخصومه بدلوهم في سيرته. حتى كلبه «بالتيك» وضع كتاًبا عن ذكرياته معه. أو هكذا زعمت دار النشر التي أصدرته. لكن المخلوقة التي تعرفه أكثر من أي إنسان٬ عشيقته السرية٬ لم تفتح فمها بكلمة. ثم جاءت المفاجأة من الصحافي الإنجليزي فيليب شورت الذي نشر كتاًبا إضافًيا عن الرئيس الراحل. وما كان يمكن للفرنسيين الالتفات للكتاب لولا أنه تضمن مقابلة مع تلك المرأة التي ظلت قانعة بالعيش في العتمة أكثر من 40 عاًما٬ حتى بعد أن رزقت بطفلة من ميتران. أمضت آن بنجو سنوات طويلة من عمرها خبيرة فنية في متحف «أُورساي» في باريس. وعندما أُحيلت إلى التقاعد٬ فّكر زملاء لها بأن خير تكريم لها سيكون بعرض دراجتها الهوائية في باحة المتحف٬ فهي قد أمضت حياتها تستخدمها في التنقل وتذهب بها إلى عملها. إن لقب «راكبة الدراجة» يصلح عنواًنا للوحة من عمل بيكاسو. لكن السيدة السبعينية رفضت وتحّرجت من كل أشكال التكريم. عاشت منذورة للظل. وكثيرون لا يتوقفون عند اسمها. لكن الكل يستدل عليها عند التوضيح بأنها والدة مازارين٬ الابنة «الطبيعية» لميتران. ومن لطائف اللياقة الفرنسية إطلاق صفة «الطفل الطبيعي»٬ وليس أي صفات أخرى جارحة٬ على الأبناء المولودين خارج فراش الزوجية. تعرفت آن بنجو على رجل حياتها صيف 1956 وهي دون الرابعة عشرة٬ وهو في الأربعين٬ أصغر وزير في الحكومة. فقد كانت عائلتها تملك منزلاً على البحر٬ بجوار البيت الذي أمضى فيه مع زوجته وولديه الصغيرين عطلة تلك السنة. ولما زارهم وجلس يتبادل الأحاديث مع والدها٬ شعرت البنت المراهقة بأن هذا الرجل يملك من المعارف ومن طلاوة الكلام ما يمكن أن يطرد عن حياتها الرتابة والفراغ. وسألها عن هواياتها فقالت إنها تريد أن تدرس الفن وتتخصص في زجاج الكاتدرائيات. إنها تنتمي لعائلة كاثوليكية برجوازية تمنح أصواتها لليمين٬ قبل أن تنقاد لسحر السياسي الاشتراكي الصاعد. ولما انتقلت إلى باريس لتدخل الجامعة٬ راحا يتقابلان ويتحابان٬ ما دامت قد بلغت السن التي تسمح لها بامتلاك حريتها. يخرج من اجتماعات الحزب ليذهب إلى شقتها الصغيرة في الحي اللاتيني٬ غير بعيد عن بيته العائلي. وهي لم تطلب منه أن يطلق أُم ولديه. ولا هو كان يفكر بذلك. إنها المرأة التي اختارها للزواج. وليس من عادته التخلي عن خياراته. وبين المرأتين مرت نساء كثيرات في حياته دون أن يقلقن مواقيته المحددة بدقة بين البيتين. ثم ظهرت بوادر الحمل على المرأة الثانية. وروت للصحافي البريطاني أن ميتران لم يكن راغًبا في طفل إضافي إلا إذا كان بنًتا. وولدت البنت. مازارين. اسم مبتكر غير معهود تفتقت عنه ذائقة والدها الذي صارت له أسرة موازية. وكان يمكن للأُمور أن تسير على ذلك النحو من التواطؤ بين الأُسرتين والمرأتين اللتين التزمتا قانون الصمت٬ مثل المافيا٬ لولا أن ميتران فاز في الانتخابات وصار رئيًسا. وتروي مازارين أن والدتها كانت تتفرج على احتفالات الفوز في التلفزيون وهي تبكي لأن الجمهورية أخذت منها رجلها. لم يسكن الرئيس في «الإليزيه» ولا في بيت الزوجية٬ وكان يتناول العشاء هناك مساءات الأحد فحسب. أما شقة المرأة الموازية فلم تعد تناسبه لأنها لا تتوفر على شروط الحماية. وكان الحل أن خصص لها شقة واسعة تطل على «السين»٬ مع حراسة رسمية لها ولابنتها. وكم كان مزعًجا لسيارة الحراسة أن تسير متمهلة وهي تتبع راكبة الدراجة الهوائية في طريقها إلى العمل. وفي النهاية تخلى الحراس عن السيارة واستخدموا دراجات أيًضا. حين ترك ميتران السلطة٬ صار له مكتب تخصصه الدولة تقليدًيا للرؤساء السابقين. وكان المرض قد اشتد عليه فقرر أن يقيم في المكتب مع طبيب يرافقه ليل نهار ويعطيه العقار المسكن للآلام. وكان قد أخذ تعهًدا من طبيبه يقضي بأن يتدخل لإنهاء حياته في حال أصابه الخرف. وتكشف آن بنجو أنه٬ ليلة وفاته٬ أصابته حالة من الهياج ولم يعد يتعرف عليها. واتصلت بالطبيب الذي حضر وطلب منها مغادرة المكتب. ويبدو أنه أعطاه أُبرة نام بعدها نومته الأخيرة. ثم عادت العشيقة وألقت نظرة على الجثمان. وبعد انصرافها جاءت الزوجة. لقد برمج الراحل كل تفاصيل موته مثلما كان قد نظم جداول حياته. وأوصى بأن تحضر آن بنجو ومازارين الجنازة. وكانت تلك هي المرة الأولى التي يرى فيها الفرنسيون شكل المرأة التي أدارت ظهرها للقب «السيدة الأولى». وفيما بعد قالت الابنة إن والدتها «بطلة فيلم لم يشاهده