بعدها توالت نكباتنا! (في الذكرى السنوية الخامسة لحادثة كنيسة سيدة النجاة) الجزء الأول -

 

تقف كلُّ الكلمات وتخرسُ الألسن ويخيّمُ السكون والوجوم كلّما قربت ذكراها وتوالت سنواتها، واحدةً أصعب من سابقاتها!

المشهد ما يزالُ أمامي، أتصّورُه مليًا، شاخصًا، قريبًا بمرارتِه من علقم الحياة الجارية. أعيشُه في الأعماق، وأحاول تقريبَه من ذاكرة تالية ومحنة مؤلمة نقشت مرارتَها وعارَها في جبين الإنسانية ودول الغرب الديمقراطيّ المنافق الذي اشعلَ المنطقة بنيران لا تُعرف نهاية إطفائِها. فتاريخ 10 حزيران و6 آب من عام2104 بعد تلك الحادثة المأساة، سيظلٌّ علامة عار في جبين الإنسانية، وستبقى آثارُه تلقي بظلالِهاالسوداء المتلبسة بعباءة الدّين، ليسَ على العراق فحسب، بل في كلّ أرض الله الواسعة، حين تذكّر المأساة المجزرةالتي شهدتها كنيسة سيدة النجاة، وما رافقَها وتلاها من أعمال قتل وعنف مستمرّة وجرائم إبادة جماعية. 

يوم الأحد 31 تشرين أول من عام 2010، أتذكرُه بالتفاصيل. فأجدهُ متمّمًا لحالة البؤس وفجاعة النكبة التي ألمَّتْ بأهلي وأقربائي وأحبتي وبني جلدتي وكلّ العراقيين الذين غدرت بهم وتلاعبت بمصيرهم دولٌ وأوطانٌ على هواها. تمامًا، كما باعهم مراهقو السياسة الجدد ومَن لفَّ لفَّهم من سارقي البسمة من شفاه الأطفال الأبرياء، ومغتالي الفرحة من أفئدة النساء والثكالى المسكينات، والمتسترين على الفساد والفاسدين، والممارسين النفاقَ والمدافعينَ عن المنافقين على السواء، وكلّ المتسربلين بستار الدّين وجلبابِه، ومَن يقف وراءَ شرعنة هذه كلّها وغيرها بفتاوىالضلال والقهر والكراهية، ومعهم كلّ المتلاعبين بقوت الشعب وحصّة الفقراء وكرامة الرجال والنساء وطاقات الشبّان والفتيات ونخبة المثقفين والأولياء.

ماذا نقول؟ أنستمرُّ على قبول الذلّ والهوان والركوع للدخيل الغريب الذي في كلّ يوم، يخرج بمبتكراتٍ وأصنافٍ من القهر والاستعباد وفرض الأمر الواقع باستجلاب متهوّرين من كارهي الحياة وبهجتِها، ومن محبّي القتل والموت والدمار والسلب والنهب والاغتصاب والنكاح ما ملكت أيمانُهم باسم الدين والطائفة والمذهب؟ حاشا منّا المذلّة! فشعبُ الرافدين والنهرين الخالدين، لم يُخلق جبانًا ولا عاجزًا ولا ضعيفًا، كي يخنع ويخضع ويركع لهذا الدخيل على طباعه وثقافته وحضارتِه. فهل انتفاضتُه اليوم وتظاهرات الجمعة المتواصلة، ستدوم وتقوّض مضاجعَ الفساد والفاسدين، ويطرق الشعب المنتفض بابَ الكبرياء والشموخ ثانيةً؟ لقد طفح الكيل وآن أوانُ الجدّ والعمل، والتوحّد تحت خيمة الوطن الكبير، واتخاذ المبادرة لقول كلمة: لا... ثمّ لا... للذلّ والهوان والسكوت عن الفساد والفاسدين، فعلاً وليسَ قولاً!

أرضُ الرافدين، ضاقت بأهلِها، وشعبُ الحضارات فقد سرَّ حياته الزاهية واستبدلها بالذلّ والهوان والركوع لكلّ قادمٍ غريبٍ طامعٍ، ليسَ كرهًا بالأرض والوطن والعرض، بل نكايةً وغيرةً وطمعًا بحب أنانيّ باطل وزائل يدمّر، يهمل، يهمّش، يقتل، يهدّد، لكنه لا ولن يدوم.

 

 

هذه هي القصة

كنّا عصر الأحد 31 تشرين أول 2010، في كنيسة سيدة النجاة، نصلّي من أجل العراق وسلامة أبنائِه جميعًا ونجاتهم من كلّ مكروه، كما اعتدنا على ذلك في كلّ مناسبة وفي كلّ قداس أيام الأعياد والآحاد. وفجأةً يدويّ انفجارٌ هائلٌ يهزُّ أركان الكاتدرائية. ويبدأ اللغط وتتداعى الهواجس المختلفة وتتداخل الأفكار المريبة مخيلاتِ المصلّين الآمنين لغاية تلك اللحظة. ونحن إذ كنا نستمع لعظة الكاهن الشهيد "ثائر" وهو يعيدُ أقوال "بطرس" المعترف بحبِّه لسيده المسيح، والمقرّ بذلك ثلاثًا، ليستحق بها قيادة الرعية بكباشِها ونعاجِها وخرافِها، إذا بأصواتِ الفرقعات والصيحات تتوالى، ومعها يبدأ التشويش على جنبات الكنيسة ويُسمع لغطٌ خارجها. إنها ساعة المحنة! قد بدأت المأساة، ومعها انتشر الخوف وعمّت الرهبة وزاد الفزع، حين تراكض المصلّون حيارى من أجل إيجاد موقعٍ حسبوه آمنًا. ولكن، لا أمنَ مع مجرمي العصر ومَن يعاهدهم ويؤازرهم ويأويهم ضمنًا وفعلاً. 

قطع الأب الشهيد ثائر عظتَه مرارًا، محاولاً تهدئة جمهور المصلّين الحاضرين "ما كو شيء". ولكن، في خارج أسوار الكنيسة، كانت قد بدأت ساعةُ الصفر بهجوم إرهابيّ غادِرٍ،استهدفَ هذه الكنيسة الجميلة بالذات، الواقعة وسط العاصمة، والتي لها رمزيتُهاالخاصة لدى أهل المنطقة. ويتمكن الإرهابيون وبتخطيط مدروس بعناية، من اقتحام الكنيسة بالرغم من اشتباكهم القصير المفاجئ مع حراس الكنيسة وبناية سوق الأوراق المالية المجاور، بسبب غياب دورية الشرطة المكلفة بحماية الكنيسة في هذا اليوم وفي هذه اللحظة بالذات. كلّ شيء، كان مخططًا له إذن. وكلُّ الترتيبات كانت قد اتخذت من أجل إنجاح عملية الاقتحام التي ما تزال تنتظر حلّ أهمّ ألغازِها وتحديد الجهة الفعلية التي قدّمت الإسناد والدعم اللوجستيّ والمعنويّ والماديّ وهيّأت الأرضية والمكان والتاريخ والزمان، كي تكون فعلاً عملية نوعية، بحسب هذه الجهات جميعًا. وبالرغم من حصولي على وثائق عدلية تشير إلى محاكمة المخطّطين المباشرين للعملية والحكم على أربعة منهم، ثلاثة بالإعدام والمرأة التي آوتهم وتسترت عليهم في المنطقة بالمؤبد، إلاّ أنّي اعتقد في قرارة نفسي، أنّ العدالة لم تتوصل إلى المخطّط الحقيقي الرئيسي لتلك العملية النوعيّة التي قصمت ظهر الجماعة المسيحية، وهي من المكوّنات الأصيلة في المجتمع العراقي وفي المنطقة.

خلال دقائق، سيطر الإرهابيون الأربعة المقتحمون (بعد مقتل زميلهم الخامس على سياج الكنيسة الغربي وتفجير سيارتهم)، على جنبات الكاتدرائية ووسطها ومقدّمتها، بعد أن شهدت تراكضًا عفويًا للمصلّين في كلّ اتجاه، وهم هلعون وغيرُ مصدّقين. فيما تسارعت أعدادٌ غيرُهم بصحبة الخوري "الختيار" روفائيل قطيميي وكاتب هذه السطور، للاحتماء بغرفة "السكرستيا" المجاورة على مقدمة يمين المذبح. فيما التجأ آخرون في غرفة المعمودية في مؤخرة الكنيسة. وفي هذه الأثناء كان الصراخ والعويل ورشقات السلاح الغادر تُسمع وتدويّ جنبات الكنيسة وتروّع المأسورين بيد الإرهابيين القساة. فيتساقط الكاهنان الشابان، "ثائر عبدال" و"وسيم القس بطرس"، ومعهم خمسة وأربعون شهيدًا، برصاص الغدر والكراهية والعنف الأعمى الذي يأبى الاعتراف بالآخر المختلف عنه في الدّين، بالرغم من أنَّ دينَه قد أوصاه أن "لا إكراهَ في الدّين". ولكنّ التعصّب الأعمى وروح الانكفاء والانعزالية لدى هؤلاء النفر قد أعمى عيونَهم وكفَّ بصيرتَهم كي ينظروا ولا يرون، يسمعوا ولا يعون، يوعَظوا ولا يتعلّمون!

في داخل "السكرستيا"، كان المشهد مريعًا. فمن الباب الخشبي الهشّ المدعوم بدولاب حديدي متهالك للكتب، كنّا نرى أشكال إرهابيّين إثنين، أحدهما كان يقبع أمام هذا الباب المتهالك، أي على بعد خطوات منّا، وهو يسمعُ صوتَنا ونسمعُ صوتَه، والآخر كان يتخذ الجهة الأخرى إلى غرب المذبح. ثمّ يُسمع آذانٌ لشاب يافع بلكنة عربية فصحى، وبعده يطولُ مسلسل الغدر والقتل وتصفية أجساد مصلّين أبرياء من دون رحمة ولا شفقة وسط عويل الأطفال ونواح النساء. فحتى الأطفال لم يسلموا من حقد وكراهية الإرهابيين المهاجمين، حتى وصل عدد الشهداء في نهاية المجزرة 47 شهيدًا!كما نلنا نحن الملتجئين أيضًا في الغرفة الصغيرة حصتنا من القنابل المتفجرة ورشقات متهوّرة، إحداها أنهت حياة الشاب "أيوب عدنان" الراقد إلى جنبي، الذي بالرغم من معاناته من جرح بليغ أصابه داخل الكنيسة قبل أن يحتمي بهذه الغرفة، كان يصلّي مسبحة العذراء كي ترافقه في شهادتِه نحو ربّه. كما فقدت الشابة العروسة "رغدة وهي" الحامل في أشهرها الأولى حياتَها وهي بين أحضان مَن احتمى معنا، وهي الأخرى كانت أُصيبت من جراء عيارات نارية داخل الكنيسة قبل لجوئِها إلى الغرفة عينِها. ومَن يعرفني، يدرك إصابتيأنا الآخر وقد فقدتُ جزءًا من سمعي. كما نال الخوري قطيمي هو الآخر وغيرنا قسطًا من الجروح والأذى الجسدي والمعنوي!

أربعُ ساعات من الهول والرعب والخوف، أمضاها المصلّون مستنجدين عبر الهواتف النقالة خلسةً، من أجل الإسراع بإنقاذ ما يمكن إنقاذُه. ولكنْ، مَن خطّط لهذه المجزرة ومَن أراد لها أن تأخذ طابعًا طائفيًا ودينيًا، لم يردْ بطبيعة الحال إنجاز مهمة الإنقاذ بالسرعة التي كنّا نحلمُ بها. فالفتنة لا بدّ أن تأخذ مجراها ووقتَها، زمانَها ومكانَها، جلاّدَها وضحاياها. أمّا الساسة وأوصياء البلاد من الغزاة ودول الغرب المتحالف، فوقفوا أربعَ ساعات يتزلّفون مع المتفرجين على المشهد، قبل ان يخجلوا ويبدؤوا ما اسموه اقتحامًا خجولاً بالفرقة الذهبية، التي لم ترقى إلى المستوى المعهود في التعامل مع بضعة إرهابيين، كان يمكن اقتناصَهم بما لديهم من أجهزة وخبرة وتقنية بدعم من قوات الطوارئ الغازية التي يترتب عليها مثل هذا الواجب في إنقاذ الرهائن عادة.

ثمّ تأتي ساعة الفرج، وتنتهي فصول المسرحية الدموية، وبإخراج دراماتيكي بامتياز. فيخرج مَن كُتبت لهم حياة جديدة، جريحًا أو ملوَّعًا مصدومًا وغير مصدّق لما حصل! ويأتي دورنا نحن للخروج من قفص غرفة السكرستيا، بين شهداء وجرحى ومصدومين، ومنهم الخوري قطيمي، ونفرٌ من الشمامسة والمؤمنين، الذين يستحقون شهادة المعترفين إلى جانب مَن تكلّلوا بالشهادة في ذلك اليوم الدامي!

لم اشأ أن أصدّق أنا أيضًا ما حصل، وكيف؟ ولماذا؟ ولدى إصراري أمام العسكري الذي أذنَ لنا بالخروج حين الإعلان عن انتهاء العملية، تفقدتُ أركانَ الكنيسة وجنباتها، لأرى أشلاءً متناثرة وأجسادًا طاهرة قد مزّقها رصاص الغدر والحقد والشرّ، وكتبًا ممزقة، وتناثرًا لأواني قدسية، ودماءً ساحت، وآثارًا لإطلاقات نارية طبعتْ جدرانَ الكنيسة وأبوابَها قاطبة حتى السقف، إضافة لغيمة من غبار غطّى أطراف الكنيسة وسقفَها. فهل يمكن تصوّر بشاعة مثل هذا الفعل الإجرامي البغيض الذي استنكرته دولٌ وشعوبٌ وبشرٌ، إلاّ أميركا الوصية على منافعها القومية في هذا البلد، ولم نرى منها أكثر من ردّة فعلٍ خجولة من بين كلّ دول العالم! وما لنا بالقول في هذا الموقف من تعليق!

أمّا ردّ فعل السياسيين في العراق، فلمْ يكن بأفضل من حاميتهم في المنطقة الخضراء. فتصريحاتُهم أو تعليقاتُهم وكذا زيارات المسؤولين في الدولة آنيًا ولاحقًا، لم تدخل سوى في خانة ذرّ الرماد في العيون، وللتغطية على فعلة الشركاءالحقيقيين في هذا العمل الإجراميّ المعقّد، الذي أرادوا فيما بعد، طمسَ كلّ آثارِه التاريخية المخجلة بالإيعاز بإعادة إعمار الكاتدرائية لاحقًا، ليصير مصيرُها إلى نسيان الحادثة المجزرة والتغطية على الجريمة مع توالي الأجيال ومرور الزمن. ومع الإعمار بإزالة الآثار الدموية وتناثر المقدّسات وشواهد التحطيم، طُويت صفحة المجرمين والمشتركين في الجريمة، من أهل الداخل والخارج.

تلكم كانت أكبرَ وصمة عار طبعت كيان الدولة العراقية الجديدة والمجتمع الدولي. جريمة العصر، التي خطّط لها الأسياد ليعود الزمن بالعراق والمنطقة، إلى عصور التخلّف والبداوة ووأد الإناث ومشاهِد الجلد والقتل والذبح والنحر المفزعة، ورؤيةالماجدات وهنّ أشبه بخيم سوداء متنقلة في الشوارع والطرقات، والاستمتاع بمشاهدة قوافل المهجَّرين والنازحين من بلداتهم وقراهم بعد اقتلاعهم من جذورهم الأصلية، بعد مضيّ سنوات قليلة فقط، ضمن ذات المخطَّط الكبير.

 مجزرة كنيسة سيدة النجاة، كانت عملية نوعية، أضافت فتنةً وبعدًا طائفيًا جديدًا لمعنى الإرهاب في النسيج العراقي، ولاسيّما في صفوف الحلقات الضعيفة فيه من أبناء الأقليات الدينية والعرقية المهمّشة بسبب نظام المحاصصة الطائفي الذي فرضته أمريكا الغازية وأملته في كتابة الدستور الأعرج المليء بالقنابل الموقوتة التي يتوالى انفجارُها منذ إقراره ولغاية الساعة. فالجميع يعلم أن الغاية من فرض وإملاء ذلك الدستور، كانت من أجل ترتيب البيت الكرديّ أولاً، ودعم تجبّرِه وتعزيز قدراتِه على حساب عموم الوطن ووحدة أرضِه وشعبِه، من أجل شقّ نسيج الأخيروإضعاف قدراته المالية والاقتصادية والبشرية، وتشظية مكوّناتِه الاجتماعيّة، وكتم أنفاسِه إلى حين تقسيمه إلى أشلاء ضعيفة متهالكة. 

 

يتبع – الجزء الثاني