أقيمت مجالس العزاء على الإمام الحسين ( ع ) يوم استشهاده في العاشر من محرم سنة 61 هـ - 680 م في الخيمة التي ضمت من تبقى من العترة الطاهرة من نساء وأطفال وبحضور الإمام زين العابدين ( ع ) ، حيث كان الأطفال يبكون والنساء تنوح ، ولما وصل موكب السبايا الى الكوفة كانت السيدة زينب بنت الإمام علي بن ابي طالب – عليهما السلام – تلقي خطبتها التي بينت فيها ملامح الثورة الحسينية وأهدافها ، وفضحت بن زياد والي الكوفة وأعوانه الذين انحرفوا عن جادة الصواب فأراد الإمام الحسين ( ع ) أن يوقف هذا الانحراف وأن يعيد الأمة الى سابق عهدها من نصاعة الإيمان ، ونقاء النفوس ، وكان المجلس الثالث في عقر دار الفسق والمجون حيث أبن آكلة الأكباد معاقر الخمر وجليس القرود ، وفي هذا المجلس وقف الإمام زين العابدين ( ع ) وقفة بطل هصور يسطر كلماته التي كشف جور بني أمية وفسقهم ومجونهم بعبارات بليغة كان لها وقعها المؤثر في نفوس الجالسين فأنقلب السحر على الساحر كما يقولون . وأستمر الإمام زين العابدين ( ع ) يعقد مجالسه الحسينية في المدينة طوال سني عمره ، وتابع أبناؤه المعصومون سيرة أبيهم في إقامة مجالس العزاء ، واستذكار واقعة الطف ، وكان الشعراء يفدون على أئمة الهدى ينشدونهم قصائد الرثاء وهم في حالة حزن وبكاء ومن وراء ستار ، وكنّ العلويات الطاهرات يبكين جدهن وما لاقى من عنت بني أمية . وتذكر الروايات التاريخية أن البويهيين أقاموا أول مأتم في بغداد سنة 352 هـ - 866 م ، ويومها أمر معز الدولة الناس بغلق الأسواق ونصبت فيها القباب وخرجت النساء باكيات نائحات . والمواكب الحسينية في العراق تنشط وتضعف بحسب مواقف الدولة ، فكان بعض الخلفاء يمنعون إقامتها ويعاقبون من يحييها فكان الناس يقيمون الشعائر سرا في سراديب البيوت أو في مساجد خارج قصبات المدن بعيدا عن عيون السلطة وأعوانها . وحين سيطرت الدولة ( الإيلخانية ) على العراق وأعلن سلاطينها التشيع سمحوا بإقامة المواكب الحسينية وتنفس أحباب أهل البيت الصعداء وأخذوا يحييون ذكر عاشوراء علنا ، واستمرت هذه الحرية زمن ( الجلائريين ) و ( الصفويين ) ، أما في العهد العثماني فكان الأمر يتأرجح بين الموافقة والمنع بحسب السلطان الحاكم ، ويمكن القول أن حرية إقامة هذه الشعائر كانت على أوسع أبوابها زمن السلطان سليمان القانوني والسلطان عبد الحميد الثاني اللذين أعطيا الناس حرية إقامتها وتذكر مصاب الإمام الحسين ( ع ) في كربلاء . إن هذا المنع كان ينفذه كل حاكم جائر وسلطان طاغ ، لأن ثورة الحسين ( ع ) انطلقت أساسا لفضح الطغاة ، وتعرية الجائرين ، وأن صوته المقدس يعلو في الآفاق فيخيفهم ويرعبهم ، وكانوا يعتقدون أنهم بهذا المنع ينهون قضية الإمام الحسين ( ع ) الى الأبد ، وما دروا أنهم كلما تمعنوا في المنع أزداد بريق الذكرى أشعاعا وتوهجا . ومدينة الحلة بعد تمصيرها سنة 495 هـ كان حكامها يعتنقون مذهب آل البيت ( ع ) فكانت المجالس تقام علنا أيام عاشوراء وصفر في المساجد والجوامع وكانت المسيرات الى كربلاء يوم أربعينية الإمام الحسين ( ع ) مستمرة ، إلا أن الأمر أختلف بعد انتهاء السلطة المزيدية أذ كان الموقف فيها يتوقف على طبيعة الحكم في بغداد ، وهذا الحكم يستند الى نوع الحاكم في مسيرته وسيرته . كانت المواكب الحسينية الحلية تقام بأسماء محلاتها ، فهناك موكب محلة الجامعين وآخر لمحلة المهدية وهكذا ، وتنطلق في اليوم الثالث من شهر محرم الحرام الى العاشر منه يوم استشهاد الإمام الحسين ( ع ) وهي على نوعين ، مواكب ( السلاسل ) ، وتخرج عصرا ، مواكب ( اللطم ) تخرج ليلا ، وتنطلق هذه المواكب من أحد مساجد المحلة متجهة الى شارع المكتبات ونهاية مسيرها الى مضيف ( السيد محمد القزويني ) ، ثم تحولت الى حسينية ( أبن طاووس ) حيث يقوم ( رادود المحلة ) بإلقاء قصيدة و ( لطمية ) ، وكل موكب ينطلق بوقت مخصص له ، ويرافق المواكب مشاهد ( الشبيه ) وهي ممارسة وفدت الى العراق من إيران في نهاية القرن الثامن عشر حيث كان الإيرانيون يمارسون هذه الشعيرة في مواكبهم التي تنطلق في كربلاء المقدسة . كان الحليون يمارسون شعائرهم في شهر محرم الحرام بحرية أبان الاحتلال الانكليزي ، أما في عهد الحكم الملكي فكانت تتأثر بالضغوط السياسية للوزارة على الشيعة ، فمرة كانت الوزارة تتشدد في إقامتها وتمارس الرقابة عليها ، وتارة تخفف من تلك الرقابة وتعطي فسحة من الحرية لمن يمارسها ، وفي عهد الزعيم عبد الكريم قاسم ظلت المواكب تمارس شعائرها بحرية تامة دون تدخل حكومي ، وفي زمن عبد السلام محمد عارف مورست ضغوط على تلك المواكب ، ومنها أستحصال الموافقات الأمنية المسبقة والتعهدات المكتوبة بعدم الإخلال بالأمن أو تسييس شعارات المواكب ، ومنع تحركها في الشوارع ، ومنع مظاهر التشبيه و (التطبير ) ، إلا أن أصحاب المواكب لم يلتزموا بتلك القرارات وظلوا يمارسون شعائرهم بحسب رغبتهم وإرادتهم ، وفي عهد عبد الرحمن محمد عارف ظهرت حرية تامة في ممارسة الشعائر دون تدخل السلطات ، ولما جاء البعثيون الى السلطة سنة 1968 م سمحوا بادئ الأمر بإقامة تلك الشعائر مع بعض الإجراءات التعسفية التي تحد من حرية تنقلها ومنع بعض ما يرافقها حتى منعتها منعا نهائيا أواسط سبعينيات القرن الماضي ، وكانت تعاقب بشدة من يقوم بها ، حتى تصل العقوبة الى الإعدام في كثير من الأحيان ، فلجأ الحليون الى ممارستها سرا في دور بعيدة عن أعين السلطة وكانت القصائد التي تلقى في تلك المجالس مضمونها النقد للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتختمها في رثاء الحسين ( ع ) وشهداء الطف عليهم السلام . أن الحليين حين يقومون بتلك الشعائر أنما يعبرون عن ولائهم لأهل البيت الأطهار ويظهرون حزنهم وأساهم على ما أصابهم من جور الطغاة وظلم البغاة لذلك نراها تحمل قيما سامية ومعاني نبيلة وأكدت الصفات الفاضلة للمؤمن النقي المخلص في عبادته دون رياء أو تزلف ، وفي الوقت نفسه تكشف أفعال الطغاة الخسيسة وأعمالهم الدنيئة وصفاتهم الرذيلة في تذكر كل ظالم بنهاية أجله المحتوم كما انتهى الطغاة من قبل من أمثال معاوية ويزيد وغيرهما . وظهرت في الآونة الأخيرة وخاصة سنين ما بعد تغيير النظام عام 2003 م ممارسات تسئ كثيرا لهذا الطقوس الدينية التي كانت تخلو من أي فعل يشوه حقيقة النهضة الحسينية التي اهتدى بفكرها وقيمها الكثير من ثوار الدنيا ، وهذا أستدعى وشجع بعض الأصوات المذعورة ، والأقلام الرخيصة لتشوه متعمدة ولغايات طائفية مقيتة لتذكي الخلاف بين الطوائف الإسلامية .
|