التظاهرات ضد سلم الرواتب كانت خالية من الروح الوطنية

لست ضد التظاهر من اجل الحقوق , على الاطلاق, بل اعتبرها حق من حقوق المواطن لسماع صوته والمطالبة بحقوقه بعد ان حرمته الأنظمة المتعاقبة من هذا الحق المشروع. ولكن في بعض الأحيان ولصالح المصلحة العامة يجب التخلي عن الحقوق مؤقتا حتى يزول الخطر . على سبيل المثال تعرض البلد الى خطر داخلي او خارجي يؤجل المطالبة بالحقوق وكذلك عندما يتعرض الاقتصاد الوطني الى ركود اقتصادي او بسبب الكوارث الطبيعية . هذا هو المعمول به في كافة الدول ذات الديمقراطيات العريقة مثل اوربا , الولايات المتحدة الامريكية , واليابان. عمال صناعة السيارات في الولايات المتحدة الامريكية اعتادوا التنازل عن الكثير من امتيازاتهم وحقوقهم عندما تتعرض الشركات الى انخفاض في مبيعات سياراتها , بل ان هناك شركات تذهب ابعد من ذلك, تسريح عمالها عندما تدخل صناعاتها في مرحلة التراجع . وعندما تعرض امن الولايات المتحدة الامريكية الى الخطر في 11 سبتمبر اتحد الحزبين المتنافسين , الديمقراطي والجمهوري ومعهما جميع قطاعات الشعب الأمريكي ضد العدوان . أتذكر ان احد معدي البرامج الترفيهية انتقد السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط , واعتبر ان هجوم 11 سبتمبر جاء نتيجة أخطاء أمريكا في التعامل مع المشكلة الفلسطينية . النتيجة ان جميع شركات الإعلان سحبت اعلاناتها من هذا البرنامج (افلاس مالي) , وفي اليوم الثاني خسر مدير البرنامج عمله على الرغم من كثرة تبريراته واعتذاراته . هذه هي الوطنية والتي خلت منها تظاهرات موظفي الدولة العراقية ضد قرار سلم الرواتب الجديد . التظاهرات و الاحتجاجات كانت لا تخلو من كلمة "نحذر", "ننذر" , "نتوعد " و "نهاجر" , وكاننا مرة أخرى امام خطابات من تسلق منصات ساحات الذل والعار والخزي والشر في الانبار والموصل . لقد احصيت عدد التظاهرات والوقفات الاحتجاجية من قبل موظفي الدولة يوم 26 تشرين الأول , فكانت 17 .

لقد ذكرت ان بعض التصريحات كانت لا تخلوا من تهديد ووعيد ,بل وصل الحد الى بعض التدريسيين الى اغلاق طرق رئيسية , وبذلك انضم هؤلاء التدريسيين الى جوقة الاشقياء و قطاع الطرق وخرجوا عن اخلاق مهنتهم التي احد اهم أهدافها هو زرع ثقافة احترام القانون. اليك عزيزي القارىء بعض نماذج الاحتجاجات التي قام بعض موظفي الدولة في "ثورتهم" ضد قرار سلم الرواتب:
اغلاق الطريق الرابط بين مدينة الحلة ومحافظة كربلاء من قبل موظفوا المعهد التقني في بابل.
موظفوا وأساتذة جامعة واسط عدوا قرار سلم الرواتب بداية بتهجير الكفاءات العلمية في البلاد.
قطع العشرات من منتسبي معمل نسيج الكوت طريق بغداد-ميسان.
قطع موظفي جامعة بابل طريق حلة-النجف .
حذر العشرات من أساتذة و موظفي جامعة ميسان من تطبيق سلم الرواتب من "عواقب وخيمة" في حال عدم الاستجابة لمطالبهم.
هدد العشرات من موظفي محطات انتاج و توليد الطاقة الكهربائية في بغداد بالاضراب عن العمل وإيقاف المحطات في حالة عدم الغاء القانون.
اعتقلت القوات الأمنية ثلاثة متظاهرين بعد تفريق تظاهرة لموظفي وزارة العمل والشؤون الاجتماعية على خلفية قيام المتظاهرين بالتعدي على القوات الأمنية.
هدد العشرات من منتسبي مديرية توزيع الكهرباء ذي قار ب"الاعتصام والاضراب المفتوح في حال عدم الاستجابة لهم".
قطع العشرات من موظفي جامعة المستنصرية في بغداد الشارع الرئيس امام مبنى الجامعة , وهددوا بالاعتصام في حال عدم تنفيذ مطالبهم.
قطع العشرات من أساتذة و موظفي جامعة بغداد شارعا رئيسا قرب الجامعة.

الا ترى معي ان من العيب على مجاميع محسوبة على هيئات تدريسية جامعية بقطع شوارع ؟ ولماذا اذا نلوم المجاميع المسلحة عندما يقومون بقطع الطرق بالسلاح وهناك "تدريسيون" يتصرفون تماما كما يتصرف المسلحون ؟ اين الثقافة ؟ اين الشهادات "العلمية" التي يحملونها؟ من أي جامعة تخرجوا ؟ هل شاهدوا اساتذتهم يقطعون الطرق , فارادوا تطبيقها على العراق ؟ شخصيا , شاهدت احتجاج أساتذة احدى الجامعات الامريكية على تعامل الإدارة معهم , فكانت احتجاجات الأساتذة عبارة عن قطعة من الورق معلقة على صدورهم كتبوا عليها مطاليبهم وهم يتمشون مع الطلاب في الحرم الجامعي. لم يطالب احدهم الطلاب بالتوجه لقطع الطرق او الهجوم على مركز الشرطة القريب منهم .

ثم لماذا هذا التهديد بالهجرة خارج الوطن مع اول هزة تكاد لا تبين ؟ اجزم ان من يريد هجرة البلد بسبب قطع قليل من راتبه , سيكون عليه سهلا ان يرى داعش يدمر ابنية جامعته ويقتل طلابها . اين الوطنية ؟ اين حب الوطن ؟ الم تكن الجامعات العراقية هي مكان انطلاق التظاهرات المطالبة بالحرية والديمقراطية ؟ كيف أصبحت مكان انطلاق التحريضات ضد النظام الديمقراطي ومن اجل حفنة من الدنانير؟ على السيد رئيس مجلس الوزراء تعيين هيئة تثقيفية لتثقيف "علمائنا" الكرام معنى الوطنية. ثم الى اين يريد ان يذهب من نادى الى الهجرة و الهروب من "جحيم" تراجع الرواتب ؟ الى الأردن ؟ سوريا؟ مصر؟ ليبيا ؟ تونس ؟ اليمن ؟ ان من حمل هذا الشعار كان يعرف جيدا انه ليس له خيار التعيين الا في العراق ولو وجد غيره لما بقى في العراق ساعة واحدة . ثم لماذا هذه "الثورة" ؟ على استقطاع 3% من الراتب ! والله عيب وابنائنا في القوات المسلحة والحشد الشعبيي وأبناء العشائر وقوات البيشمركه يهبون دماء زكية كل يوم من اجل عراق خالي من الإرهاب . في الولايات المتحدة الامريكية قد تمر عشرة سنوات بدون ترفيع الهيئات التدريسية وبدون احتجاج لا من الهيئة التدريسية ولا من قبل الموظفين . كل ما يحتاجه رئيس الجامعة هو القاء خطبة على الهيئة التدريسية و الموظفين في اول يوم من بداية الفصل الدراسي يخبرهم فيها ان الميزانية لا تتحمل الزيادة . بعد انتهاء الخطاب يخرج المستمعون يتضاحكون حتى وان لم يقتنعوا بتبريراته . ولكن تحت ظل ديمقراطيتنا , اصبح الموظف والأستاذ لا يقتنع بالاسباب حتى وان جاءت من رئيس مجلس الوزراء و وزير ماليته .

ان 7 من عشرة درجات اصابتها زيادة في الراتب ولم يتاثر الا ثلاثة درجات وهي الثامنة والتاسعة والعاشرة . الشيء الغريب انه لم نسمع شكر وامتنان أصحاب الدرجات السبعة ولكن سمعنا صراخ من أصابه القطع . ما حجم هذا القطع ؟ فقط 3% من الراتب . الله يكون في عون العراق ويبعد عنه كل مكروه . الخلاصة , ان موظفي الدولة الكبار وأساتذة الجامعات , "علماء" هذا البلد الجريح الصامد يحتاجون الى دورة تقوية في موضوع الديمقراطية , لان من غير المعقول ان تقلد الدولة اخطر المهمات الى ناس يغلقون الشوارع ويطلقون التهديدات بالهجرة بسبب تخفيض اجره بنسبة 3% فقط.