رؤية على ضوء ظاهرة الفساد.. حقوق التدريسيين وموظفي الجامعات

 

في العراق الديمقراطي الفيدرالي التعددي حيث شعارات الشفافية والفكر الحر والتعبير عن الرأي بكل حرية, ودون خوف من رجال الأمن السري, زوار الساعة الثانية بعد منتصف الليل, التي حلت محل الشعارات القومية المنادى بها من جانب الأحزاب والتيارات التي مثلت امتدادا للفكر القومي العربي, والذي ظهر قبل انهيار الامبراطورية العثمانية, وبعد التأريخ المذكور نتيجة خسارتها في الحرب العالمية الأولى في هذا العراق أصبح كل شيئ وليد الفساد بمظاهره المتنوعة, والأمر المذكور ينطبق على كافة قطاعات المجتمع وهياكل ما تبقى من الدولة العراقية رغم شعارات الاصلاح المطروحة, والتي لا يبدو حتى اللحظة أنها تعبر عن وجود تصور حقيقي للاصلاح في عقول من قبض على السلطة, في غفلة من الزمن ببلاد ما بين النهرين.هذه المقدمة تعكس مجمل الحقيقة على وجه العموم, وما أريد ايضاحه يتعلق حصرا بواقع التدريسيين السيئ في الجامعات العراقية – وأنا في هذه السطور لا أتطرق مطلقا للواقع الأسوء للكادر التعليمي في وزارة التربية – رغم أهمية دور أساتذة الجامعات من اللذين يملكون تصورا تربويا حقيقيا للرسالة التي يؤدونها في المجتمع, وهو ما ينطبق على المعلم, والمدرس ضمن كادر وزارة التربية, كما أنه ينطبق على الكادر التدريسي العامل ضمن ملاك وزارة التعليم…… والبحث……. ألم يكن ليون ديكي وهو من أعظم القانونيين الفرنسيين وصاحب نظرية التضامن الاجتماعي يقول:(ليس من دور أكثر نبلا وأكثر روعة من دور المعلم الذي يفتح في ضوء العقل عيون الصغار, والذي يعلمهم القراءة والكتابة, وقواعد الحساب. ان عظمة أية أمة تتوقف قبل كل شيئ على معلميها, وعلى التعليم الذي يعطونه).ان الذي يبدو حتى الان عدم وجود رؤية حقيقية وجادة للاصلاح, بل ان كل ما يطلق من تصريحات أصبحت عبارة عن وعد بالحرية من ديكتاتور, والوعد بالحرية من ديكتاتور هو شيك بلا رصيد, أو أن هذه التصريحات من دمى الدولة العراقية الثانية ((2003 – …….. لم تعد تشكل سوى أملا بالحرية من شاب حالم, وأمل بالحرية من حالم لا يمكن أن ينظر اليه الا باعتباره عملة مصابة بالتضخم.

ان واقع حال العراق حيث دجلة والفرات بلد الخير والخيرات أينما تولي وجهك قد أصبح على غير هذا الحال حتى أننا لا نستطيع أن نفسر ما سبق وأن عبر عنه الصحفي المصري المعتق كما هي المومياوات المصرية محمد حسنين هيكل الا بمعنى معاكس عندما كتب قائلا:(من الخطأ أو لعله اسراف في سوء الظن بالنفس البشرية أن يتصور أحد أن طموحات الفرد هي مجرد مطامع شخصية له فذلك ينزل بصناعة التأريخ من مستوى العمل السياسي الى مستوى العمل الاجرامي ويجعل من القيادات السياسية صورة مزوقة لعصابات المافيا).وبالعودة الى جوهر الموضوع الذي أود طرحه عن طريق الصحافة العراقية بعد أن (كللت ومللت من الكلام مع بعض أصحاب القرار في فترة من الفترات بوزارتنا العتيدة) يتلخص في االمحاور الأتية:

1.ما زالت المعوقات التي توضع بوجه التدريسيين في الجامعات العراقية كبيرة ومزعجة لهم, فمن عوامل نجاحهم في أداء دورهم بطريقة صحيحة منحهم فسحة من حرية الحركة, وعدم اغراقهم بتفاصيل ادارية لا تساهم بأي شكل من الأشكال في تطوير امكانياتهم العلمية لا بل على العكس من ذلك فان هذا الأمر يقود الى خلق نوع من الاحباط وعدم المبالاة لدى البعض, وهذا الجانب لا يجب أن يفسر وكأنه دعوة الى عدم المتابعة لعملهم ولكنه مجرد دعوة تنطلق من ضرورة معاملتهم باحترام يستحقه من يؤدي عمله بصمت وبطريقة بعيدة عن الاساءة للاخرين.

2.هناك زخم واضح في الاعباء التدريسية, وبشكل خاص عندما يجري تكليف التدريسي بمهمة تدريس أكثر من مادة منهجية الزامية أو اختيارية بحيث تتجاوز الساعات الدراسية المحددة لنصابه ومن دون دفع مستحقاته عنها, وهي متواضعة للغاية, في مقابل وجود أوجه صرف لا داعي لها مطلقا موجودة أيضا في مؤسسات الدولة الأخرى بشكل مضاعف حيث يمكن الاستغناء عنها اذا ما تم تنظيم احتياجات كل مؤسسة تعليمية وحكومية من الناحية المالية بطريقة صحيحة تضمن استخدام اقتصادي نزيه للموارد المتاحة.

3.ما زالت ظاهرة الفساد تجد لها صور متعددة في مفاصل العملية التعليمية مما يشكل ضغطا لا مبرر له على التدريسيين في الجامعات العراقية بعد أن أصبحت مسألة الحصول على شهادة جامعية أولية بل وحتى عليا غاية يسعى اليها البعض من الموظفين الصغار والكبار في الدولة العراقية العتيدة بل وحتى من قبل من يدعي مباشرة العمل السياسي كونها حسب وجهة نظرهم توفر جانبا من الوجاهة على المستوى الاجتماعي دون الأخذ بنظر الاعتبار ضرورة توافر مستلزمات علمية للحصول على شهادة في اختصاص ما, والفئة التي أقصدها لا تتوافر لديها هذه الامكانيات العلمية لأكثر من سبب.

4.على الرغم من وجود ممثل للتدريسيين في كل كلية عراقية فان الدور الذي يقوم به ما زال محدودا للغاية حتى انعكس ذلك بطريقة سلبية على نظرة كافة التدريسين للدور الذي يمكن أن يقوم به خدمة لهم مع توافر الرغبة في تقديم أي شيئ لمصلحتهم من جانب بعض من يقوم بهذه المهمة, ومرد هذا القصور أننا ما زلنا في العالم العربي نؤمن بما ورد في المأثورات العربية, وعلى وجه التحديد تلك المقولة التي مضمونها:(من اشتدت وطأته وجبت طاعته) وهذا المعنى يتعارض مطلقا مع القيم الديمقراطية بشكل أو باخر, وهي قيم تبناها دستور عام 2005 النافذ في العراق – أو المفروض أنه نافذ في العراق – والتي تكرس الحق في حرية التعبير فضلا عن التعارض مع قيم الاسلام الحقيقية.

5.ما زال تدخل التيارات والأحزاب السياسية – افترض هنا وجود تيارات سياسية وأحزاب في العراق- فضلا عن قوى ضغط أخرى تباشر دورا سلبيا للغاية يؤثر بصورة أو بأخرى على مخرجات التعليم العالي في العراق حتى أصبح التدريسيون يعانون بشكل أو بأخر من التهديد العلني والمبطن حتى من جانب بعض الطلبة المتنفذين وغير المتنفذين.

6.لا يمكن مقارنة وضع التدريسيين العاملين في المؤسسات التعليمية العراقية, وهو وضع سيئ من الناحية الاقتصادية, بأقرانهم الحاملين لشهادات عليا, الذين يقدمون خدماتهم الى دوائر حكومية أخرى رغم أن الأعباء التي ألقيت وما زالت تلقى على كاهل التدريسين كبيرة وثقيلة ولا يمكن مقارنتها بالأعباء التي تلقى على كاهل الفئات المذكورة في أعلاه بالمقارنة مع حجم الامتيازات التي حصل عليها غير التدريسين فلماذا هذه الحرب المعلنة على تدريسي الجامعات العراقية ؟

7.نتيجة للواقع الذي أشرت اليه في أعلاه لجأ أغلب التدريسيين ان لم أقل جميعهم الى التدريس في الكليات الأهلية سعيا وراء الرزق الا أن المفاجأة تمثلت بعدم الترحيب من جانب هذه الكليات بكل من يحمل لقب علمي كبير- أستاذ أو أستاذ مساعد – بل أننا نسمع بصراحة وبكل وضوح ما يعبر عنه عمداء هذه الكليات ورؤساء الجامعات فيها من أن مشروعهم هو عبارة عن مشروع تجاري يستهدف الربح, وأنا عندما أذكر هذه الحقيقة لا أذيع سرا مطلقا.

8.ما زالت عقدة الكرسي ومن يجلس عليه قائمة حيث يتغير الانسان بطريقة عجيبة ويصبح ميالا الى ممارسة دور الدكتاتور أو الأمر الناهي بطريقة غير مقبولة تنتقص من كرامة وانسانية الاخرين بشكل أو باخر, ومثل هذه السلوكيات شكلت واحدة من أسباب الكثير من المشاكل الي تشهدها الجامعات العراقية.

من جانب اخر هناك من الموظفين والتدريسين من يحاول تخريب العلاقة بين زملائه والرئيس الاداري الأعلى في الدائرة, ومنهم من يجامل البعض خلافا للقوانين والتعليمات النافذة أو يحاول تعطيلها مستغلا بعض الجوانب الواقعية لابقاء بعض المفاصل الحكومية ذات الصلة بالجوانب الادارية والعلمية تحت سيطرته بل ان ظاهرة التملق تصل الى مستويات غريبة لدى البعض تعكس قدرة لا متناهية على التلون والتقلب من حال الى حال, والأمثلة على ذلك كثيرة رغبة من هؤلاء في تحقيق مصالح شخصية.

9.تبدو مسألة ضرورة تشريع قانون فعال لحماية التدريسيين, والمحافظة على حقوقهم في هذه الظروف هدفا مهما, فالعوامل التي أشرت اليها في النقاط 1 – 8)) أصبحت مولدة لعوامل احباط متعددة للغاية تسهم في خلق ضغوط اضافية ذات أثر سلبي كبير عليهم. وأختم هذه السطور بايات من الذكر الحكيم فما ثبته لا يستهدف أحدا بقدر ما يشير الى حالات سلبية موجودة فعلا, ومع ذلك أقول: (الي بعبه طلي يمعمع) وفي الموروث العربي الزاخر بالحكمة يقال:(يكاد المريب أن يقول خذوني) (بسم الله الرحمن الرحيم, قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين”109″ وما أرسلنا من قبلك الا رجالا نوحي اليهم من اهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الأخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون “110” حتى اذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين “111” لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيئ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون, صدق الله العظيم).