قبل ٩ سنوات بالتمام والكمال هبطنا أنا وعائلتي في مطار تورونتو للمرة الاولى في حياتنا لدى هجرتنا الى كندا وذلك في منتصف الليل.. غرباء بالمعنى الحقيقي للغربة حيث لم نكن نعرف سوى عائلة عراقية واحدة من أصدقائنا كانت قد سبقتنا بالهجرة قبل فترة قليلة . وقد كان للابتسامة الدائمة المرسومة على وجه موظفي المطار وعبارات الترحيب " اهلًا بكم في كندا" أشد الأثر في التخفيف عنا من إرهاق الرحلة الطويلة قادمين من ابو ظبي الى تورونتو.. كما وأنها كانت بمثابة حبوب مهدئة تزيل شيئا من الخوف من المجهول الذي يعتري كل من قرر يوما ان يحرق السفينة التي ابحر بها عندما تطأ قدمه اليابسة كي لا يفكر في العودة الى من حيث أتى اذا صادفته بعض العراقيل في بداية مشواره في الهجرة .
لقد حجزت شقة مفروشة عن طريق الانترنت وتبادلت ايميلات عديدة مع سمسار عقارات قام بواجبه خير قيام حيث حجز حتى سيارتَي الأجرة التي اقلتنا مع حقائبنا الى البناية فوصلنا في الهزيع الأخير من الليل ...كان هناك بالانتظار كي يطمئن الى سهولة دخولنا الشقة والاجابة عن أي تساؤل لدينا حتى انه قام بتسوق مفردات الافطار كي نجد ما نأكله صباح اليوم الثاني . قام بذلك بأدب وكياسة ثم وضع على الطاولة فاتورة بالمبلغ كما تم الاتفاق عليه مسبقا بالضبط وانصرف،، ولم يحلف بأغلظ الإيمان او الحلف بدستة من الأنبياء والمرسلين انه قد أعطاني سعرا جيدا لن اجد مثيله كما يحدث عادة لدى اجراء اي معاملة تجارية في بلاد الواق واق .
كان معي في هذه الرحلة ثلاثة من أولادي وزوجتي اما حبيبتي ابنتي تمارة فلم ترافقنا لانها كانت مرتبطة مع زوجها وعائلتها الصغيرة . كانت اصغر بناتي رند في مرحلة الثانوية آنذاك اي ان أولادي لم يكونوا أطفالا ... وبطبيعة الحال يندر ان تخرج كل العائلة بسيارة واحدة اذا كان الأبناء بالغين وذلك لارتباط كل منهم بعمله او دراسته او عائلته الصغيرة اذا كان متزوجا . وهكذا كان حالنا في السنوات التسع التي تلت هجرتنا نجتمع فقط في الأعياد والعطل عندما نكون جميعا في نفس المدينة وليس هناك من تضارب في مواعيد العمل .
في شهر أكتوبر من هذه السنة شائت الظروف ان نجتمع كلنا في عطلة نهاية الأسبوع.. بل والاجمل من ذلك ذهبنا جميعا بسيارتي الى مركز الانتخابات للمشاركة في اول انتخابات نزيهة في حياتنا بعد ان أصبحنا جميعا نحمل الجنسية الكندية . وأثناء قيادتي للسيارة متوجهين للمركز الانتخابي عاد بي شريط الذكرى الى ذلك اليوم الذي هبطنا فيه لأول مرة في تورونتو و استذكرت كم من مياه كثيرة مرت من تحت الجسر كما يقولون وكم تغيرت نظرتنا نحو الحياة منذ ذلك الحين .
كانت هناك ثلاثة احزاب تتنافس على البرلمان الكندي ومنصب رئيس الوزراء وقد كان لكل من أفراد عائلتي رأي مختلف عن الاخر عن المرشح الاصلح وقد تناقشنا بهدوء وديمقراطية حقيقية وكل يدلي بدلوه في مجرى النقاش . لم يطرق بابنا معمم دجال ينذرنا بالويل والثبور وعظائم الأمور ان لم ننتخب مرشح ذلك المذهب ولم يزور محلتنا مرشح لص ممن تقيأته الحياة عارضا بطانية او كيس بطاطا او لفة فلافل او مبلغا من المال يعيننا على نوائب الأيام كي نجير له صوتنا. لم تمتلىء شوارع كندا بصور ولافتات رجال الدين وهم ينظرون شزرا داسين انوفهم في كل شؤون الحياة و يحثون العباد على إلغاء عقولهم والسير ورائهم لانتخاب ذلك المرشح المحتال او تلك التافهة التي تحلم بلقب نائبة وهو اسم على مسمى في برلمان العراق المسكين .
وماهي الا ساعات بعد إغلاق صناديق الاقتراع أعلن اسم جستن ترودو كفائز بالانتخابات وهزيمة رئيس الوزراء الحالي ستيفن هاربر فلم ينبري له القاضي الشرير مدحت المحمود مستخدما أخس وسائل الخديعة والمكر ليعكس نتائج الاقتراع . وأول مافعله جستن ترودو ساعة اعلان النتائج ان سار لوحده بدون حماية في شوارع المترو في مونتريال مصافحا المارة ولم يصرح لهم ولوسائل الاعلام "بعد ما ننطيها" .
ان الديمقراطية الحقيقية لن تتحقق في بلد ما ان لم تكن هناك تقاليد للديمقراطيه تبدأ في المنزل والمدرسة والجامعة ولن تتحقق اذا استمر رجال الدين بتصدر المشهد السياسي وقطعا لن تتحقق في ظل ظروف الأمية والجهل والفقر المدقع حيث بإمكان الدجال المحترف ان يقود قطيعا كبيرا من الأميين وانصاف المتعلمين الى حتفهم وهم يظنون كل الظن انه يقودهم الى جادة الصواب . لن نرى ديمقراطية اذا ما باع السياسيون ضمائرهم وشرفهم لدول الجوار وكان لحم أكتافهم من خيرهم كما يقال بالمصري .
كم مائة سنة ضوئية ستمر قبل ان نرى ديمقراطية حقيقية في العراق ؟؟
للتواصل مع الكاتب يرجى الكتابة على البريد الالكتروني
madhatsaleh@gmail.com