الدنيا بالمقلوب |
اعتدنا جميعا على اعتبار المسنين محافظين ورجعيين٬ واعتبار الثورة والانقلاب والتجديد والعلمانية والماركسية والوجودية حكرا على الشبيبة ومن في وسط العمر. واعتدنا أن نلاحظ أن من يؤمون المساجد والكنائس ويؤدون الفرائض هناك من الشيب والمشايخ. أما الشبيبة فتجدهم في الملاعب والمقاهي. بيد أن عوامل مختلفة دخلت الساحة وقلبت هذه المعادلة. ترى الشبيبة الآن يملأون المساجد والكنائس٬ والشيبان في المقاهي وأماكن اللهو. وكذا تلاحظ هذا التغير في المزاج في النشاط الثقافي. تلاحظ الشيب والصلع والعكازات والكراسي بعجلات «ويلتشير» كلما كان موضوع المحاضرة أو الندوة يتناول الديمقراطية أو الاشتراكية أو الشيوعية ونحو ذلك من المواضيع العلمانية. وهناك من الشباب من تجدهم مشغولين بالخلافة وكل ما يتصل بالتاريخ الإسلامي والدين٬ إنهم الذين تحتشد بهم الأحزاب الإسلامية والإسلام السياسي. الشيوخ ينادون بفصل الدولة عن الدين٬ والشباب يطالبون الدولة بالرجوع للدين. كنت أتهيأ لسماع محاضرة عن ملحمة جلجامش٬ عندما وقف أحد الحاضرين وأعرب عن شكواه من سيادة الشيبان على جمهور المحاضرة. قال: «يا جماعة هذا شيء غير صحيح. سينقرض جيلنا هذا قريبا. لا أرى غير الشيب على رؤوس الحاضرين. لماذا لا نحاول اجتذاب الشباب لنشاطاتنا؟ لماذا لا يأتي أولادنا لها؟». والعجيب في الأمر أن هذه الظاهرة قد انتشرت في العالم الغربي أيًضا. لاحظت ذلك في الضجة التي أثارها البرلمان البريطاني قبل أيام. المعتاد تاريخيا في بريطانيا أن يضم مجلس اللوردات الشخصيات المسنة المحافظة٬ وأن يتكون مجلس العموم من الشباب وصغار السن٬ من يحملون الأفكار الاشتراكية والراديكالية. بيد أن هذا الوضع قد انقلب تماما في الآونة الأخيرة. تجلى ذلك في التصويت الذي جرى قبل أيام بشأن العلاوات الضريبية التي تمنح لذوي الدخل المنخفض. بيد أن حكومة كاميرون قررت قطع هذه العلاوات ضمن سياسة التقشف. صوت مجلس العموم إلى جانب القرار وأبرمه. أحيل التشريع إلى مصادقة مجلس اللوردات. وإذا بهم يشنون حملة قوية ضد القرار٬ وندد بعضهم به بلهجة عاطفية ذكرتني بخطب الشيوعيين واليساريين عندما كانوا ينبرون للدفاع عن حقوق الطبقة العاملة. وفي الأخير قرر اللوردات رفض اللائحة دفاعا عن مصالح الطبقات الفقيرة٬ وأثاروا بذلك أزمة دستورية في البلاد. شعرت بشيء من الدعابة والسخرية عندما سمعت أنصار الحكومة في مجلس العموم يشيرون إلى اللوردات العجائز بأنهم حفنة من «اليساريين» الذين لا يعبأون باقتصاديات البلاد وضرورات التقشف! هذا مقلب ظريف حقا! لكنه يعكس في الواقع ما جرى في عالمنا العربي٬ وربما في كل زوايا العالم. ويعكس في الوقت عينه هذه الظاهرة المخيفة. أصبح الناس يعيشون أعمارا طويلة حتى الثمانينات والتسعينات٬ بل والمائة. ويتطلب ذلك خدمات كبيرة لرعايتهم وإعاشتهم. يلقي ذلك أعباء اقتصادية على الشبيبة الذين ينبغي عليهم أن يدفعوا الضرائب الكافية لرعاية المسنين. وهذا ما يصور لنا هذا الموقف الظريف: المسنون يشكلون البروليتاريا العاطلة والشبان يشكلون الرأسمالية البخيلة!
|