سينتظرون غرق طفل آخر كي يملأوا الدنيا صخباً، السياسة شغلت الجميع، أكلت العقول وحصلت على الرتبة الأولى في سلم الاولويات. واحدة من مشكلات عقلنا العربي ان الاولويات غالباً مسكونة بأقل القضايا مساسا بإنسانية الفرد. حتى التظاهرات والاحتجاجات العربية تتجه لمطلب "كبير" على حساب القضايا اليومية والملحة. بل يمكن القول ان عقولنا تخجل من الاهتمام بتفصيلات حياتنا، لذلك تغطيها بغطاء "قضية الامة". لذلك فالموضوعات الانسانية الملحة تفتقر لاهتمام كبير الا اذا قفزت حادثة كبيرة أعلى السلّم. موضوع المهاجرين والنازحين واللاجئين منذ سنوات، قضية يومية في الشرق الأوسط. فبعد أن كانت فلسطين الوحيدة التي تعاني من هذا الموضوع، انضم العراق اليها منذ 1991، والتحقت سوريا بعد 2011.. والأخيرة باتت الأكثر تمثيلاً لهذه الكارثة. رغم هذا فإن الشأن السياسي للبلدان التي تعاني من الهجرة الداخلية والخارجية، يمثل الأولوية في وسائل الاعلام واللقاءات او المؤتمرات. فلم نشهد مثلا مؤتمراً جاداً حول المهاجرين والنازحين السوريين، بينما شهدنا مؤتمرات ولقاءات وحوارات كثيرة. وحتى الجهات السورية ذات الاختصاص، سواء تلك المرتبطة بالنظام او بمعارضته، تركز بدرجة رئيسية على الاولويات السياسية. الآن، الشتاء على الأبواب، هناك مخيمات سورية في تركيا والأردن تعيش ظروفا سيئة، ومئات الالوف في لبنان يصعب على البلد الصغير رعايتهم.. وفي العراق الالاف على تخوم بغداد، فضلا عن اخرين يواجهون ظروفاً غير لائقة نزحوا الى بغداد وجنوب العراق وكردستان. ولأن النظم السياسية عاجزة أو غير مهتمة، والدول الاقليمية التي استقبلت المهاجرين محدودة الامكانيات او تركت الأمر للجهات الدولية، فمن المهم ان تتحرك الاطراف المشتغلة في الانسانيات، وايضا الجهات الداخلية التي تصدت للقضايا "الوطنية". خصوصا بعد أن انكشف ان لا لاعبين محليين قادرين على صناعة تغيير سياسي، لأن الملفات الكبيرة بيد الدول ذات النفوذ في الشرق الاوسط. فعلى الاقل لتلعب دورها الأكثر الحاحا ووطنية وانسانية. حيث يمكن أن تلعب دور العراب في هذا الصدد، وتدفع ملف النزوح الى اولويات الامم المتحدة، ليس كوضع روتيني، انما كملف غير اعتيادي. المشكلة الرئيسية التي يمكن أن تواجه مثل هذا الجهد، هي الفساد... فسرقة أموال المهاجرين القادمة من منظمات انسانية، من قبل المنظمات المحلية تمثل تحديا كبيرا جدا، افقدت الثقة بأي جهد من هذا القبيل. وهذا حصل في العراق وسوريا. ومواجهة هذه المشكلة تكون بدفع المنظمات الدولية للإشراف المباشر، وليس عبر قناة. اي أن لا تقوم أي جهة داخلية او محلية بمسك المساعدات بيدها، انما تلعب دور العراب فقط. ان الاهتمام اللازم يبدأ مبدئيا عبر التصدي اعلاميا لهذا الملف، فكما ان هناك ناشطين سياسيين ومحللين مهتمين بالقضايا "الكبرى" لابد من المساعدة بدفع من يمتلك الامكانيات والمعرفة بالقضايا الانسانية ليلعب دوره اعلاميا، ورفده بكل المعلومات ذات الصلة، ليكشف عن أي خلل أو فساد. نحتاج فعلا الى "محللين انسانيين". ومبدئيا، من المهم ان نتجاوز الفكرة الغبية التي تقول بأن هذه الاوطان تفرغ من طاقاتها بوجود مؤامرة "غربية"، هذا الكلام لا يرقى للاهتمام... وبذلك يمكن دفع أكبر عدد من نازحي المخيمات او المهاجرين الذين يمرون بظروف سيئة الى المغادرة نحو اوطان أكثر امنا وحياة. ومثل هذه المهمة تكون متاحة عبر تشكيل فرق عمل تقوم بمفاتحة أي دولة في العالم، حتى لو كانت الارجنتين او بوليفيا وأي بلد آخر بعيد وقريب، لاستقبال الناس، والتنسيق مع الامم المتحدة للمساعدة لنقلهم والاهتمام بهم لفترة انتقالية. إن اعادة توطين الهاربين هي المهمة الأكبر الحاحا في المرحلة المقبلة، الامر ليس مستحيلاً طبعا، تحتاج فقط الى أن لا تتجه العيون نحو "السياسة" والمتغيرات الكبرى. فمثل هذه المهمة تفوق حتى طرد داعش ومشتقاتها وتغيير النظام في سوريا واعادة هيكلة العملية السياسية في العراق، لأن هذه ليست بيد القوى الداخلية، انما الكبار، بل والكبار جدا.
|