من المسؤول عن غياب المكتبة المدرسية؟


كثير من الأدباء والمثقفين والفنانين والأكاديميين وكل من له علاقة وطيدة بالقراءة، حين يُسأل عن سر اكتشافه لروعة القراءة وشغف المُطالعة، سيتذكر في البدء، المكتبة المدرسية التي كانت سبباً في ولوجه لهذا العالم الجميل، لكن هذه المكتبات باتت غائبة عن مشهد الكثير من مدارسنا، وباتت وسط اكتظاظ المدارس، وشح الأبنية المدرسية، ترفاً، فيما يرى مختصون ان غياب المكتبة المدرسية، سيلحق ضرراً بالغاً بالعملية التربوية برمتها، مطالبين بتفعيل دور المكتبة المدرسية، ما أمكن ذلك، لأنها جزء مهم وحيوي في عملية التنشئة التربوية السليمة.
تجربة شخصية

مصطفى ستار الركابي، معلم مادة التربية الفنية وكاتب مسرحي يروي لـ «الصباح» تجربته الشخصية قائلاً: «قبل عام تخرجت في معهد الفنون الجميلة في البصرة، حيثُ أمضيت فترة التطبيق في إحدى المدارس الابتدائية في منطقة شعبية، في اليوم الأول وصلت لتسلم المباشرة بالتعليم، صادف وصولي مع نهاية الدوام الرسمي وهنا رصدت حالة من الرقص والغناء والضحك وفرحة غريبة لدى التلاميذ الذين يخرجون من المدرسة».
ويضيف: «المشهد كان بحاجة لأمهات فقط، عند باب المدرسة كي يصبح مطابقا تماما لمشاهد تبادل الأسرى، فالتلميذ يكره المدرسة ويحاول الخروج منها بأي وقت، وهذه مشكلة أولى».
ويؤكد: «طوال فترة ممارسة التعليم أصبح الهدف من وجودي هو المحافظة على هدوء المدرسة وأن يصبح صفا نموذجيا، حيثُ كنت قد أعددت برنامجا مسبقا للفترة التعليمية وكان في مقدمة البرنامج نقل الدرس من الصف إلى غرفة المكتبة او قاعة المسرح بحكم انني أقدم مادة فنية تحتاج لطالب بمزاج مرح على
الأقل».
ويتابع: «من شباك غرفة المكتبة المدرسية لاحظت انها محشوة بكم هائل من الكتب، عرفت بعد ذلك انها كتب منهج العام الماضي ولا يوجد أي كتاب خارج حدود وزارة التربية».
ويردف «عرفت ان هذه المدرسة لا تضم مكتبة مدرسية للمطالعة، لذا طرحت فكرة على طلاب الصف السادس وهي أن نكتب مجموعة من القصص ونؤسس بها مكتبة صغيرة يقرأها طلاب الصف الخامس وفي العام المقبل يكتب طلاب الصف السادس مجموعة أخرى ليقرأها طلاب الصف الخامس ايضا وهكذا».
ويشير مصطفى الى انه استعان بفقرة الألعاب القرائية من كتاب أساليب ترغيب القراءة للطفل، نجح الأمر بنسبة جيدة نوعا ما».
ويوضح «مدارسنا بحاجة أولا لعملية تغيير مفهوم المدرسة بالنسبة للطالب وتتحول بالنسبة له الى مكان قابل للتلقي، ومن ثم إضافة مادة التلقي كمادة أساسية ومهمة، وتوزيع المناهج لطرق مغايرة للشكل المتعارف عليه، فيمكن التخلي عن كتاب القراءة مثلا والاستعانة بالقراءة المسرحية، وهي أن يقدم الدرس وحكمته وإملاؤه بطريقة
تمثيلية».

ضعف التنشئة

ويرى الدكتور جون العتابي – أكاديمي -، في حديث لـ «الصباح»، ان تراجع مستويات القراءة مرده في الأساس لغياب الوعي الكافي للمدارس الابتدائية، كونها المفصل الأهم في عملية التنشئة التربوية، يقول العتابي: إن « تعدد القنوات المعرفية كالفضائيات والانترنت، قد أثرت كثيراً في تداول الكتاب، وتنمية العزوف عن القراءة في شرائح واسعة، لاسيما الشريحة التربوية، فكيف ننتظر ممن لا يقرأ أن يهتم بطقوس القراءة أو يوفر مقوماتها الأساسية، كالمكتبة
المدرسية».
ويضيف العتابي: «يرافق غياب دور المكتبة المدرسية في تحفيز التمليذ على القراءة، غياب دور الأسرة في تنشئة الأبناء على القراءة والمطالعة، ولذا نجد ان القراءة تكاد تنحسر في الجيل الذي عاصر مراحل تطور الوعي، ونشأ في زمن لم تكن فيه هذه الوسائل قد ظهرت
بعد».

مسؤولية المدرس

فيما يرى مدير الإعداد والتدريب في مديرية تربية محافظة ذي قار، كريم خلف الغالبي، ان موضوع المكتبات ودورها في المدارس له أهمية بالغة في نفوس الطلاب، وكما هو معروف في مدارسنا فهناك حصة من حصص درس اللغة العربية تخصص لهذا النشاط، الذي أصبح حبرا على ورق في أذهان مدرس اللغة العربية، والمسؤولية الكبرى بإهمال هذا الجانب باعتقادي تقع على عاتق المدرس.
ويضيف في حديث لـ «الصباح»: «لاحظنا في مسيرتنا الدراسية ان المدرس المثقف يصنع المستحيل من أجل تفعيل هذه الحصة لبناء جيل يفهم ويتعلم ويطلع بالرغم من عدم توفر الكتاب والمكتبة، لاسيما ان المسؤولية الكبرى تقع على عاتق إدارة المدرسة والمشرف المتابع، وقد أهمل هذان العنصران دوريهما في المتابعة والمحاسبة، ولم يدرك المشرف وكذلك الإدارة خطورة هذه الظاهرة وأثرها السلبي في الطالب، فنشأ لدينا جيل لا يميل الى المطالعة ولا حتى اقتناء الكتاب».
وعن سبل حل هذه المشكلة، يقول الغالبي: «أعتقد ان المدرس يستطيع أن يوجه الطالب بوجود الاتصالات الحديثة ووجود النت في كل بيت بإرشاد طلبته للبحث والقراءة ومطالبة الطلبة بالبحوث المفيدة التي تتعلق بالمنهج وغيره كحل بديل، والمحاسبة على ذلك ومتابعته حتى وإن لم يجد مكتبة في المدرسة، كما أن هناك رافدا آخر لتعزيز دور المكتبات، وهو الدورات التدريبية، فلقد كانت حصة المكتبات من الدورات غير شاملة وتكاد تكون منحسرة بسبب إهمال الوزارة وعدم تدريب قادة في مجال دورات المكتبات، فلقد كان قسم التدريب يقيم سنويا دورتين تضم 60 متدربا من المدرسين وهذا العدد لا يكفي لإيفاء الغرض، ويمكن الاستعاضة عن الدورات بدروس تدريبية يقوم بتفعيلها المشرف الذي أهملها هو الآخر، وهناك قسم للشؤون الفنية يقع على عاتقه وضع خطط مناسبة لتفعيل المكتبات وإنشائها ورفدها في المدارس، لتقوم بدورها الذي لا نرى له بريقا واضحا في هذا المجال، ما عدا معاهد المعلمين، إذ تم تزويد تلك المعاهد بكتب استخدمت في هذا المجال من قبل مدرسي المعاهد».

ستراتيجية تربوية

مثنى السعيدي، مدرس وإعلامي يقول لـالصباح»: إن «التعليم في العراق يحتاج الى تغييرات كبيرة واهتمام حكومي وخطط يضعها مختصون، فضلا عن رصد مالي كاف حتى يمكن النهوض بالتربية والتعليم من مراحله الأولى الى الجامعات، وقد أدت الظروف الاقتصادية والسياسية والحروب التي مر بها العراق الى تراجع كبير في مستوى التعليم ومنها غياب المكتبة المدرسية والمسرح والرسم
والموسيقى».
ويضيف: «غياب هذه النشاطات أثر في تراجع المستوى الثقافي لدى الطلاب، ونلاحظ هناك فرقا كبيرا بين مستوى الطلاب الثقافي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وبين المستوى الحالي، فكـــان الطلاب فــــي ذلك الوقـــــــــت يقرؤون الكتب والروايـــــــــات العالمية ويقيمــــــون المسرحيات على قاعــــــــات المــــــــدارس، فيما فقـــــــد طالب اليوم أي مستوى ثقافي يذكر، حتى أصبح طالب المتوسطة والإعدادية لا يجيد كتابة الإملاء الصحيح!».
ويعزو السعيدي هذه المشاكل، لأسباب عديدة منها اضافة الى غياب التخطيط الستراتيجي في وزارة التربية والتعليم «تضخم أعداد الطلاب مقابل عدد المدارس والدوام المزدوج في المدرسة الواحدة فلا يوجد هناك وقت كاف للطالب لحضور المكتبة المدرسية ان وجدت في المدرسة أصلا، لأن أغلب المدارس بحاجة الى قاعات جاهزة
للمكتبة.
إضافة الى الحالة الثقافية العامة السائدة في المجتمـــــــــــع هــــــــــــــي غير مشجعة علــــــــى القـــــــــــراءة، فأغلب الشباب والمراهقين يهتمون بالتقنيات الحديثة أكثر من اهتمامهم بالكتـــــــــاب، فكان لانتشار اجهزة الموبايل الذكية والانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي الأثر السلبي في وقت الطالب وثقافته، لأنه صار يريد الحصول على المعلومة السريعة بدلا من قراءة
الكتاب.
من جهته يقول الناقد المغترب عباس داخل حسن، في حديث لـالصباح»: «في عصرنا الرقمي اليوم، نجد ان الطفل في العراق لم يحصل على مهارات كافية، وبالتالي تراكم هذا النكوص لنواجه أجيالا أقل ما يقال عنها غير واعية ولم تكترث للقراءة والكتابة، فلم تحصل على شيء خارج مناهج نمطية عفا عليها
الزمن».
ويضيف: «الدولة هي المسؤولة في
الأول والأخير، ولا يمكن فعل أي شيء دون تغيير التعليم وإعداد النشء «الطفل
بمرحلتي الحضانة والابتدائية» وهذا موضوع ذو شجون مركبة ومعقدة
لكن ليس مستحيلا أن نبدأ طالما هناك إمكانيات مادية وتاريخ معرفي لا بأس به، فالعراق في العقود السابقة كان يولي اهتماما مقبولا في المكتبات المدرسية ومطبوعات الطفل وبرامجه المنوعة يمكن إحياء بعضها وألا نصبح خارج الزمان
والمكان».
ويشير داخل الى تجارب عالمية، فيقول: «لقد أبدعت الدول الإسكندنافية «بصفتي مقيما في فنلندا ٢٥ عاما» في جعل وخلق عملية تكاملية للنهوض بتنمية مجتمعاتها على أكمل وجه وعلى أعلى درجات الكمال، حيث بدأت من الحضانة «1 – 7 سنة» في جعل مكان الحضانة مناسبا للعب والتعلم، وبدأت تدريب وتنمية مهارات الأطفال للاستعداد للقراءة وملامسة الكتب غير المدرسية «الإجبارية» وخلق علاقة حميمة مع الكتاب وتوفير مطبوعات شيقة تشجع الطفل على تصفحها بشكل مستقل وهذه عملية
نفسية».
ويتابـــــــــــــع: «هنــــــا فـــــــــي المدارس الابتــــدائــــــيــــة توجــــــد مكتبات مربوطة مع شبكة المكتبات العامة وهي عملاقة بكل صدق ومنذ الصف الثاني يبدأ المعلمون بإعطاء الطالب حـــــــــــق اختيار خمسة كتب حسب رغبته
لقراءتها، خلال عطلة نهاية الأسبوع وتلخيصها وهذه عملية غيــــــر إلزامية او إجبارية، ومنذ دخول الطفل المرحلة
الابتدائية «الصف الأول» يمنح هويــــــــة اشتراك في المكتبة العامة ويحق له استعارة الكتب والأقـــــــــــراص المدمجـــــــــة حسب فئته العمرية،
وهذه عملية شديدة المراقبة من
موظفي المكتبة والآباء، فهل نستطيع أن ننقل خبرات الآخرين في إنشاء مثل هذه التجارب؟ مجرد
تساؤل؟.