بين الرفض والقبول استقبلت منار محمد خبر سُلـَّم الرواتب الجديد لتمسك الورقة والقلم وتدوِّن مبلغ راتبها الجديد، أصابتها الدهشة بعد أن وصلتها المعادلة الرياضية الى نتيجة ان تدفع مبلغ خمسين ألف دينار حتى تستطيع تسديد قرض المصرف (سلفة المئة راتب)! منار لديها خدمة خمسة عشر عاماً ولولا الزيادة ومخصصات الخطورة التي شملتها قبل أشهر عـدة لكانت تستدين المال لتعيش في مستوى معاشي متوسط لأنها فضّلت شراء بيت صغير وبنته بشكل مختصر بعد ان أخذت سلفة (37) مليون دينار عراقي لإنقاذ عائلتها من جشع المؤجرين!
منار ليست الوحيدة من بين ملايين الموظفين الذين سيجعلهم سُلـَّم الرواتب الجديد ينزلون درجات بدلا من الصعود .
تساوى المعهد والبكالوريوس
عمر حميد موظف لديه خدمة اربع سنوات يقول لـ(المدى): كيف يمكن احتساب راتب خريج المعهد الذي درس سنتين مع راتب خريج الكلية الذي يصعد درجة وظيفية ايضا وبالتساوي بينهما معتبرا ذلك غبناً كبيرا موضحا: ان راتب البرلماني عشرة ملايين ونصف يكفي (21) موظفا براتب ( 500) الف دينار شهريا وعلى افتراض ان لكل واحد منهم زوجة واربعة اطفال يعني أنه يعيل (105) عراقيين.
دراسة القرارات الحكومية
اما الموظف عادل محمد طالب فيؤكد لـ(المدى) ان الحكومات المتعاقبة اعتادت على اصدار قرارات وتعليمات ارتجالية غير مدروسة أوقعت البلــد في أزمات متتالية كان آخرها قرار تخفيض الرواتب، مشيرا: ان اغلب تلك القرارات يجب ان تخضع لدراسات في مراكز ابحاث واستطلاعات تعلن على الجمهور، كما معمول بــه في أغلب دول العالم.
ويشاركه الرأي زميله فراس وهاب شهيد جامعة بابل فقد ذكر ان القرار سينعكس سلبا على حالة الموظف ويرجعه الى زمن الحصار، أي ان الموظف سيبحث عن اعمال اخرى الى جانب وظيفته التي ستفقد الكثير من الإخلاص والعمل الجاد، مؤكدا: ان إلغاء الخدمة الجامعية سيؤدي الى كارثة اقتصادية لاسيما وان عددا كبيرا من الموظفين ملزمون بدفع أقساط السلف والقروض الحكومية وغير الحكومية مما يعني ان معظمهم سيكون راتبه الصافي بعد الاستقطاع بحدود 20 الف دينار.
اما الموظف حامد عكرم محمد فقد أكد ان سُلـَّم تخفيض الرواتب سيؤدي الى رفع نسبة البطالة موضحا ان الموظف بعد تطبيق القرار سيزاحم الآخرين في أعمالهم في السوق. مبينا ان جدولة القروض التي دعا اليها رئيس الوزراء تشمل المصارف الحكومية وليس المصارف الاهلية التي تلزم الموظفين بدفع الاقساط كاملة مما يضع الموظف بمشاكل كبيرة. ليس من حـق المجلس إلغاءه
الخبير القانوني ضرغام الساعدي قال لـ(المدى): ان سُلـَّم الرواتب الجديد من الناحية القانونية ولنأخذه دستوريا حيث هناك فقرة في الدستور (مبدأ المساواة بين العراقيين وعلى الدولة ان تكفل رعاية المواطنين ورفع المستوى الاقتصادي) والقانون عدّل في بعض فقراته قبل سنوات عــدة وذهب الى وزارة المالية لكن ان يُلغى السُلم القديم الذي صدر بقانون هنا يعتبر مخالفة قانونية. مبينا: ان الغاء قانون لابد ان يصدر قانون جديد بالمقابل، اما يتم إلغاؤه من قبل مجلس الوزراء ومن دون العودة الى مجلس النواب لإصدار قانون كما ذكرت آنفاً مخالفة دستورية كبيرة اضافة الى ان ليس من حـق المجلس تكراره.
ديـون الهاتف النقــال
وأوضح الساعدي: ان نسبة (80%) من فئات الشعب العراقي تعيش على الرواتب واي تقليل فيها سوف يظهر مافيات لسرقة الأموال، وحدث فعلا هذا عندما سرقت رواتب الموظفين وحتى سرقة المصارف الحكومية والاهلية وبعض محال الصيرفة. مبينا: ان هذا الامر حدث عام 1950 في ايطاليا عندما إنهار الاقتصاد المالي.
واستطردا الساعدي: ان الحل هو الغاء مخصصات الدرجات الخاصة والامتيازات للنواب وليس تقليل رواتب الموظفين وتحويل الفروقات منهم واليهم حيث الدرجات الدنيا 7_8_9_10وتأخذ ما يُقطع من الدرجات العليا 3_4_5 (فروقاتهم المالية) التي يعتمدون عليها في دفع ايجار وتوفير مستلزمات الحياة وحتى قروض مصارف أخذت على الراتب وتستقطع منها نسبة مئوية. متسائلا: من أين سيدفع الموظف هنا الفرق في حالة الاستقطاع؟ لا نريد زيادة الفساد المالي والاداري، منوّهاً: ان هناك موارد مالية اخرى مثلا لماذا لا تأخذ الحكومة مبلغ سبعة مليارات دولار التي تطلبها من شركات الاتصال؟ ولماذا لا تفرض الضرائب على البضائع المستوردة بشكل قانوني كل تلك الأمور توفر سيولة نقدية؟ ولماذا رواتب الموظفين فقط تلجأ اليها الدولة؟!
استنزاف العملة الصعبة
بينما وضّح الخبير الاقتصادي د. ميثم لعيبي في حديثه لـ(المدى): في حالة تطبيق سُلـَّم الرواتب الجديد وحسب التحليل المالي والاقتصادي سيكون هناك انكماش اقتصادي لان القوة الشرائية تنخفض والبضائع المستوردة سوف يقلُّ الطلب عليها، معللاً الأمر بسبب انخفاض الأجور والرواتب التي أثرت على المستوى المعيشي الذي يتحكم بالإنفاق والادخار الذي سيقل.
واضاف لعيبي: سابقا تتحول الزيادة في الاموال الى مدخرات مالية بيوت او حتى شراء الذهب اما في السُلم الجديد لا تكون هناك زيادة وسوف يحدد الاستهلاك والانفاق ويكون فقط على السلع الاساسية والاستهلاكية بينما الكمالية لا تشكل نسبة 5% لأي إعادة هيكلية الميزانية الإنفاقية للاسرة. مبينا: ان هذا سوف يجعل من التجار يخفضون اسعار السلع المستوردة وبالتالي سحب وطلب العملة الصعبة سوف ينخفض ويساعد في عدم استنزاف عمولات البنك المركزي العراقي، لأن الاستيراد والطلب يحددان بالمواد الاستهلاكية الأساسية تقريبا.
توفيـر السيولة
عضو اللجنة النيابية، نجيبة نجيب، في تصريح لـ(المدى) ان سُلـَّم الرواتب الوظيفية الجديد سيعود بالفائدة على الموازنة العراقية وسيوفر فارقا ماليا كبيرا ستستفيد منه الدولة بعد الازمة المالية جراء انخفاض اسعار النفط. مضيفة: ان سلم الرواتب الجديد سيقلل من الفوارق في الرواتب حيث سيتم تقليل رواتب الرئاسات الثلاث,ولا يكون هذا السلم مشابها للسابق الذي استثنى الكثير من الوزارات او الهيئات المستقلة من وضع شروط الراتب عليها.
وتابعت نجيب: ان الرئاسات الثلاث والهيئات المستقلة ووزارات الدفاع والداخلية والتعليم العالي والنفط والكهرباء جميعها ستخضع لسُلم رواتب جديد، ومن المؤمل ان يؤدي هذا الامر الى توفير سيولة مالية جيدة للحكومة لانها ستقلل من الرواتب الضخمة.
فقدان الولاء المؤسسي
في حين يؤكد د. عبد الخالق الجبوري استاذ جامعي بحديثه لـ(المدى) ان قرار سُلم الرواتب يفتقر الى المصداقية القانونية، اذ ان الغاء الخدمة الجامعية عن التدريسيين والموظفين في الجامعات بحاجة الى استحداث قانون وفق مواد الدستور المتفق عليها.
وأوضح الجبوري ان القرار ينعكس سلبا على المؤسسة الحكومية العراقية التي ستفقد الكثير من الولاء التي تحرص كثير من المؤسسات العالمية الى تنميته لدى الموظف لتحقيق اقصى درجات الحرص والانتاج والارباح ، مشيرا إلى ان القرار سيضر شريحة مهمة في المجتمع يقدر عددها بـ (4) ملايين انسان تعيل اكثر من (20) مليون نسمة. داعيا الى ضرورة اتباع استقطاع تصاعدي لا يؤثر على راتب الموظف وفي الوقت نفسه تستطيع الدولة الحصول على إيرادات مالية.
طرد الكفاءات والهجرة
ويؤكد خالد كاظم الجنابي مدير حسابات ان القرار مجحف بحق الموظف وان الزيادة المرتقبة للدرجات الدنيا لا تشكل تأثيرا اقتصاديا على رواتبهم ، في حين ان استقطاع 40-50 الف دينار واكثر من موظف الدرجتين الثانية والاولى يعني استقطاع ثلاث سنوات من عمره وشطب ثلاث علاوات سنوية.
ويشير الباحث الاجتماعي اسعد الشوك أن الحكومة ستجعل من القرار طاردة للكفاءات العلمية العراقية التي استطاعت جذبهم من الخارج في السنوات الماضية. وستحدث هجرة عكسية لتلك الكفاءات وبالتالي سيخسر البلد جانبا مهما من عقوله الكبيرة.
اما الإعلامي صلاح علي كاظم فقد دعا الى دراسة القرارات الحكومية التي بعضها قد يؤدي الى انهيار في المؤسسة الحكومية العراقية وخاصة قرار تطبيق سلم الرواتب الجديد .وأشار صلاح الى ضرورة ايجاد بدائل اقتصادية منها توسيع الاستثمار وتفعيل الصناعة والزراعة وغيرها من الطرق التي تجلب ايرادات كبيرة من دون المساس برواتب الموظفين.
تهديد للحاجات الأساسية
ويؤكد الدكتور حسين ربيع رئيس قسم العلوم النفسية والتربوية ان تخفيض الرواتب يشكل تهديدا كبيرا لحاجات الانسان التي تهدد حياته النفسية والاجتماعية حسب سُلم أوسلو الذي يبدأ اولا بإشباع الحاجات الفسلجية ثم حاجة الانسان للأمن والحاجة الى الانتماء وتقدير الذات ثم الحاجات الجمالية والمعرفية. وان قرار تخفيض الرواتب من شريحة الموظفين سيهدد الاحساس بالامن النفسي والاقتصادي والاجتماعي لديهم لاسيما وان اغلب الموظفين يعتمدون على الراتب في معيشتهم اعتمادا كليا من خلاله يتم اشباع تلك الحاجات لتحقيق الاستقرار النفسي .
وأوضح ربيع ان احساس الموظف لدائرته يتأثر مع مقدار ما يتقاضاه من دعم حكومي وان أي تخفيض لهذا الدعم يؤدي الى ضعف الولاء وبالتالي يشجع على انتهاج سلوكيات غير لائقة يفاقم حالة الموظف النفسية.
فيما يشير الدكتور مدين نوري اختصاص علم النفس التربوي الى دراسات وابحاث تناولت الشخصية العراقية اشارت فيها الى ان الشخصية العراقية شخصية استفزازية ، وان أي نقص في الحاجة المادية يؤدي الى طرح افكار استفزازية وسلوكيات غير لائقة في المجتمع ، وهذا ما يحصل حاليا في دوائر الدولة التي ستتأثر في استقطاع الرواتب حيث سنشهد ردة فعل سلبية كبيرة من قبل الموظفين جراء القرار الحكومي. ودعا مدين الى ضرورة دراسة الشخصية العراقية بشكل جيد ومن جميع جوانبها. خفض الرواتب يؤثر على الاقتصاد
الخبير الاقتصادي د. جواد البكري ذكر لـ(المدى): يتكون اقتصاد كل دولة من جانبين الجانب الاول هو جانب الطلب، ويسمى في ادبيات الاقتصاد (الطلب الكلي) والجانب الآخر هو جانب سلعي ويسمى (العرض الكلي). إن أي خلل في احد الجانبين سيجر الاقتصاد الى أزمة اقتصادية يتناسب حجمها وحجم السياسة الاقتصادية الخاطئة التي سببتها، مبينا: في العراق اليوم أكثر من اربعة ملايين موظف حكومي يتقاضون بحدود (41) ترليون دينار سنوياً، يشكلون ( 20%) من القوة العاملة في البلاد، وبتخفيض رواتب هذه الشريحة سيؤثر ذلك بشكل واضح على الاستهلاك الكلي ومن ثم على الطلب الكلي، لافتاً: ان الأمر سيؤدي الى انخفاض الطلب الكلي عن العرض الكلي بشكل كبير، وهذا الانخفاض سيؤدي الى دخول الاقتصاد العراقي في حالة من الركود نتيجة انخفاض الميل للاستهلاك من قبل (20%) من اصحاب الدخول في المجتمع.
واضاف البكري: أما الطبقة الاخرى التي ستتضرر من جراء سياسة تخفيض الرواتب غير المدروسة فإنهم المدينون سواء للمصارف أو للافراد، إذ أنهم سيجدون انفسهم غير قادرين على تسديد اقساط ديونهم مع هذه النسبة الكبيرة من التخفيض في دخولهم الامر الذي سيشعل موجة من المشكلات بين الدائنين والمدينين!!
|