بعد مكتبة المهلب العامة.. بغداد الجديدة تودع مكتبة النجاة الأهلية!!

لا أغالي في القولِ إنَّ المكتبات الأهلية التي وجدت لها مستقراً في العاصمةِ بغداد، تشكل إرثاَ ثقافياً ومعرفياً يوثق حضارتها وعراقة تأريخها، بالإضافةِ إلى ما شهدته المدينة التاريخية من تغيراتٍ بنيوية في أوضاعِها وأحوال أهاليها، بوصفها منظومة ثقافية على نحوِ مشابه لمؤسسةٍ تعليمية فكرية وتثقيفية؛ بالنظرِ لمساهمتِها بنسبةٍ كبيرة في مهمةِ حفظ التراث الثقافي والإنساني والفكري، فضلاً عن تأمينِ مصادر المعرفة التي يحتاجها القراء والباحثون والمثقفون والمواطنون من كافةِ الشرائح الاجتماعية بمختلفِ أعمارهم وثقافاتهم المتباينة.          

 المكتبات الأهلية، التي كانت وماتزال أهم الوسائل المعتمدة في نشر المعرفة، يجري إنشاؤها وتمويلها من قبلِ أشخاص غير مرتبطين بأي جهة حكومية من أجلِ إشباع هواية المعرفة، التي لا تجعل الاسترزاق هدفاً محورياً لإقامتها. إذ أنَّ أغلبَ أصحاب المكتبات الأهلية الرواد يهدفون من وراءِ تأسيسها إدامة التواصل الاجتماعي مع النخبِ المثقفة والشخصيات الاجتماعية بما يعين في الارتقاءِ بمستوى الثقافة والفنون في البيئة المحلية، حيث تشير أغلب الدراسات والبحوث إلى أنَّ نحوَ ( 70% ) من المعلوماتِ التي يكتنزها الإنسان مردها إلى المطالعة، فيما تتشكل النسبة المتبقية مما يتعلمه الإنسان عن طريقِ البحث والسؤال والتأمل والتجربة.

يمكن القول إنَّ القراءةَ تعد مفتاح العلم، إلى جانبِ كونها المرتكز الأساس في إنجاح عملية التربية والتعليم، الأمر الذي يلزم القيادات الإدارية والحكومات المحلية توجيه مفاصلها التنفيذية صوب آليات من شأنِها تكريس الاهتمام بالمكتباتِ على مختلفِ أنواعها ( العامة، الأهلية، المدرسية )، بالإضافةِ إلى تبني إدارتي الثقافة والتربية برامج منظمة بوسعها تشجيع أجيال الشباب على المبادرةِ بإنشاءِ المكتبات الشخصية، لأجلِ المساهمة بإتاحةِ فرص ديمومة الثقافة والمعرفة لأفرادِ المجتمع في بيئةٍ تحملت وزر عبثية السياسات في زمانِ الحقبة الدكتاتورية، ولم يتخلَّ أبناؤها عن مواصلةِ  العطاء الإنساني، الذي احتضنته مختلف أوعية الحفظ المتاحة في المكتباتِ الشخصية، فضلاً عما ألحق بها من دهاليزٍ مظلمة بقصدِ إبعادها عن أعينِ الرقيب والمخبر السري. إذ أضاف هذا النشاط التوثيقي الذي حرص أصحابه على حفظه وأرشفته بوسائط تضمن على بساطةِ آلياتها  سلامته من الضياع أو التلف، كماً هائلاً من المخطوطاتِ والرسائل والوثائقِ الورقية والسمعية إلى الإرث الثقافي والفني الذي أفرزته نتاجات  مبدعينا.

بالاستنادِ إلى رؤيةِ المتخصصين بعلمِ المكتبات حول ما تتوخاه المكتبة من مقاصد إنسانية تتعلق بمهمةِ نشر الثقافة، والوعي الفكري بجميعِ اتجاهاته الإيجابية، فضلاً عن السعي لتنويعِ مصادر معرفة المواطن العادي والموظف والتلميذ في جميعِ البيئات الجغرافية، فإنَّ قرارَ حكومة بغداد المحلية أيام ولاية المحافظ صلاح عبد الزراق بتحويلِ بناية مكتبة ( المهلب ) العامة إلى مقرٍ لإحدى نواحي العاصمة، كان نكسة للثقافةِ البغدادية، لاعتباراتٍ تتعلق بأهميةِ مكتبة المهلب في إطفاءِ ظمأ الجمهور المتعطش للقراءة، بوصفِها الصرح الوحيد الذي كان ينهل من ينابيعه المعرفية والثقافة والفكرية من يرغب من الأهالي في مدينةِ بغداد الجديدة وضواحيها.

ما عدا مجموعة المكتبات الأهلية المعنية ببيعِ القرطاسية ومزاولة مهنة الاستنساخ وكبس الهويات المنتشرة في بغداد الجديدة وضواحيها، لم تظهر في هذه المناطقِ مكتبة أهلية تفوح بعطرِ الثقافة والمعرفة غير مكتبة ( النجاة )، التي أقامها الكتبي عبد الرضا الخياط في مركزِ بغداد الجديدة التجاري، مستغلاً فراغ إحدى محطات الانتظار الخاصة بالنقلِ العام من شاغليِها المفترضين بعد الزلزال السياسي الكبير الذي شهدته المنطقة عام 2003 م. إذ ألزمته ظروف البلاد العامة حينئذ، فضلاً عن محدوديةِ دخله  إلى نقلِ بضاعته من الفكرِ والثقافة والعلوم والفنون من عرينِها الدائم في شارعِ المتنبي إلى مكانِها الجديد بعد جهده في تنظيفِ المكان من النفاياتِ والأنقاض وتزيينه بما عرضه من بضاعةٍ جديدة على روادِ أسواق بغداد الجديدة، إلا أنَّ هذا الوضع الذي كان بمثابةِ الرئة، التي تتنفس منها بغداد الجديدة وما يتبعها من الضواحي، لم يدم طويلاً بفعلِ تفجير إرهابي عصف بأحدِ أسواقها المطلة على الشارع الرئيس الذي يخترق المدينة، مفضياً إلى انهيارِ ( مملكة الورق )، التي أنشأها الخياط بذكاءٍ في الهواءِ الطلق.

المحنة التي أقضتْ مضجع الخياط، فرضت عليه البحث عن أنسبِ الخيارات وأيسرها، التي بوسعها تمكينه من مواصلةِ السير في ثنايا عالمه المحبب، الذي أفنى سنوات عمره وزهرة شبابه متنقلاً بزهوٍ أو حزن ما بين فضاءاته، فكان أنْ وجدَ بعد عناء كبير محلاً صغيراً في أحدِ الممرات الفرعية لواحدٍ من أسواقِ بغداد الجديدة، ليقيم عليه مملكته، التي أجبرته على بيعِ بعض المقتنيات العائلية، بالإضافةِ إلى أغلب ما يحتفظ به من مواد أثرية وتاريخية.   

على الرغم من محدوديةِ مساحتها، استعادت ( مكتبة النجاة ) رحلتها المعرفية مع القراءِ والدارسين والمتابعين للمشهدِ الثقافي، فكانت بدماثةِ خلق صاحبها الزميل الخياط وحسن تعامله مع روادها، المستمد من استخفافِه بالعائدِ المادي، أقرب إلى صالونٍ ثقافي منها إلى مكتبةٍ أهلية، بوصفِها فسحة للتواصلِ الاجتماعي والثقافي والمعرفي، لا ترقى إلى أريجِ جلساتها اليومية كثير من المنتدياتِ الأدبية والمجالس الثقافية في العاصمةِ بغداد، حيث توافد عليها المهتمون بالآدابِ والفنون بمختلفِ أنساقهما، بالإضافةِ إلى الباحثينِ عن مصادرِ كتابة الرسائل والأطروحات في مختلفِ المجالات الإنسانية والعلمية أو المكلفين بإعدادِ بحوث الدراسات الأولية   أو غيرها من النشاطاتِ الثقافية والفنية. إذ ساهمت المكتبة موضوع بحثنا في إتاحةِ فرصه الثقافة المستمرة لأفرادِ المجتمع المحلي في مدينةِ بغداد الجديدة وضواحيها، فضلاً عن ضيوفِها من بقيةِ مناطق العاصمة أو  القادمين من بعضِ المحافظات بفعلِ معرفتهم السابقة بصاحبِها.

لا أغالي في القولِ إنَّ انبثاقَ مكتبة النجاة في بغدادِ الجديدة أفضى إلى فاعليةِ المساهمة بإيجادِ بيئة خادمة للقراءِ على اختلافِ مؤهلاتهم العلمية والإنسانية والمهنية، بوصفِها حاضنة ثقافية ومعرفية في هذه المنطقة، عكست إنجازات من تردد عليها من شريحةِ المبدعين ما قدمته للوسطِ الثقافي، وما بذلته للجمهورِ من خدماتٍ جليلة تفرض علينا الثناء والاحترام لزميلِنا الخياط، الذي كانت عزة النفس تجبره على المكابرةِ لسنواتٍ على الرغمِ من ضيقِ ذات اليد وكفاف العيش، فضلاً عن قسوةِ كثير مما يحيط به، فكان بأصلِ ذاته وحلاوة روحه جاذبا لزوارِ مكتبته، التي تحولت إلى مكانٍ للقاءِ الزملاء يقصده أيٌّ منهم متى ما شاء من دونِ موعدٍ مسبق.

الصعوبات التي واجهت الخياط، ولاسِيَّمَا إخفاقه في استردادِ أمواله التي بذمة المتبضعين من أصحابِ المكتبات والبسطات في شارعِ المتنبي، لم تؤثر على ما احتضنته جلسات مكتبته من عبقِ الذكريات الجميلة، وأيامها الدافئة طوال رحلة شخوصها في فضاءاتِ الثقافة والفنون، بالإضافةِ إلى ما كان يتخللها من حواراتٍ حول نتاج الثقافة ومحطاتها الإبداعية، التي ساهمت بتعميقِ وشائج المحبة وتعزيز عرى الصداقة ما بين روادها وعدد من زوارِها المتذوقين لمختلفِ ضروب الأدب والمعرفة، إلا أنَّ بيعَ المحل الذي أقيمت عليه المكتبة دفعت بمالكِه الجديد مطالبةَ الخياط تسديد مبلغ كبير لا يقوى على دفعه عن بدلِ ما يشار إليه محلياً بعنوانِ ( السر قفلية )، الأمر الذي أودى بحلمِ الخياط  في بقاءِ مكتبته محطة لقاء للتواقينِ إلى ولوجِ دروب الثقافة، ولم يشفع الزمان لتضحياته بصحته وما يملكه من مال، فضلاً عن راحةِ عائلته، حيث أجبرته الظروف على إغلاق مكتبته ومغادرتها بخطى متعثرة، ليس بحثاً عن حياةٍ أفضل، إنما الانزواء بعيداً عن عالمه في غربةٍ قاسية، كاد يصاب منها في مقتل.

في زمانٍ رديء مثخن بالأزمات، التي عمقتها الأنا، كانت ( مكتبة النجاة ) شريكاً وظهيراً لما سلم من المكتباتِ العامة؛ بالنظرِ لأهميةِ دورها في تأمينِ ما يحتاجه الدارسون والباحثون والمثقفون والمهتمون بالمعرفة، ولاسِيَّمَا في مدينةِ بغداد الجديدة وضواحيها، إلى جانبِ دورها المهم في ترسيخِ مهمة التواصل الاجتماعي، ما يعني أنَّ خروجَها من الخدمةِ يشكل خيبة أمل لجميعِ من يحرص على نشرِ الثقافة، والوعي الفكري في جميع اتجاهاته، ولعل من المناسب الإشارة إلى يوم المكتبة الأخير، الذي شهد جلسة حوارية رائعة التقيت خلالها زميلي وصديقي الباحث والأكاديمي الدكتور علي القريشي بعد فراقِ أكثر من عام، على الرغمِ من الحزنِ الذي ارتسم على وجوه الحاضرين.

بعد أنْ تقطعت بزميلِنا الخياط السبل، وأغلقت أمامه جميع الأبواب، التي من شأنِها منحه ولو بارقة أمل لانفراجِ أزمته، لم يجد سوى اللجوء إلى منزله الصغير الذي تشاركه العيش فيه أرواح سئمت ضيق مساحته ملاذاً آمناً لحفظِ كامل موجودات مكتبته من المعاجمِ والكتب والموسوعات والدوريات وغيرها، بعد أنْ عمد إلى تعبئتِها ورزمها بأوعيةٍ كارتونية، ولم يخطر بباله ولو لوهلةٍ أنَّ القدرَ سيكون له بالمرصادِ عاجلاً ام آجلا، فكان أنْ اقتنصت منه مياه الأمطار الغزيرة، التي أغرقت منزله في الأيامِ الماضية نحو ( 75 % ) من وثائقِ مكتبته، التي استدان مبالغ حيازتها من بعضِ الأصدقاء، لتحيلها إلى رُكام!!. 

لم يبقَ لي من أمرٍ سوى إلفات نظر البيت الثقافي العراقي بأهميةِ معاونة الزميل الكتبي عبد الرضا الخياط في إعادةِ فتح مكتبته، وفي مقدمةِ من يعنيهم الأمر إدارة وزارة الثقافة بوصفها راعية لبيوتِ الثقافة والمعرفة، مع العرض أنَّ الخياط كان داعماً لنشاطاتِ البيت الثقافي في بغدادِ الجديدة منذ افتتاحه. وليس من المنطقِ أن أستثني  في هذه الدعوةِ مجلس محافظة بغداد ومحافظها وأمينها، بالإضافةِ إلى المؤسساتِ الثقافية.

الأمل يحدونا في اكتحالِ فضاء بغداد الجديدة بعودةِ مكتبة النجاة على أطلالِ نفس محطمة محاطة برُكامِ الكُتُب، فهل من مبادرٍ ولو بكلمةٍ أمينة صادقة؟.