الشيخ د. احمد الوائلي شاعرا

هو أحمد بن الشيخ حسون بن سعيد بن حمود الليثي الوائلي من قبيلة كنانة العدنانية من بني ليث عائلة آل وائل و اشتهرت عائلته بآل حرج نسبة إلى جدهم الأكبر (حرج).
وموطنهم الاصلي في العراق , محافظة ذ ي قار ,قضاء الغراف ,ونزح جدهم (حرج) الى النجف الأشرف أثر خلاف عشائر في الموطن الاصلي ,فأشتهرت هذه الاسرة في النجف بأسرة آل حرج.
وفي عاصمة الثقافة ولد شاعرنا د. احمد الوائلي الكناني في يوم الاثنين 17 ربيع الأول سنة 1347 هـ ـ 1928م.
وتوفي في يوم الاثنين 14 جمادى الأولى 1424 هـ ـ 2003م، في الكاظمية بمدينة بغداد. ودفن في مقبرته الخاصة الى جوار الصحابي كميل بن زياد النخعي في النجف الاشرف.
أن المفكر الوائلي شخصية مشهورة ومعروفة وغير خافي على احد أنه مبتكر أسلوب الخطابة وهو أحد أركانها ومؤسس مدرستها الحديثة في المنبر الحسيني حتى أطلق عليه بعض العلماء بأنه مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) المتنقلة ولسانهم الناطق بالحق .
وايضا هو أحد الباحثين المفكرين الذين اثروا المكتبة العقائدية بمؤلفاتهم الغنية بالحقائق المخفية ,فمن تلك المؤلفات : (هوية التشيع ,و نحو تفسير علمي للقران, ودفاع عن الحقيقة ,وتجاربي مع المنبر ,و من فقه الجنس في قنواته المذهبية , و أحكام السجون ,و استغلال الأجير وموقف الإسلام منه, و أوليات الإمام علي (عليه السلام) ).
وكان حريصا في كل كتاباته على تجاوز المذهبية الضيقة والتعصب والانفعال، فكان بذلك من رواد الدعوة الى وحدة المذاهب الاسلامية والتقارب بين الاديان.
ويعتبر الوائلي من الشخصيات القليلة الفريدة من نوعها حيث ابدع وتميز في شتى الميادين الثقافية على المستوى العلمي والادبي فضلا عن ذلك فأنه متعدد المواهب والتراكم المعرفي .
وهذا جاء نتيجة نفسه الطامحة الموهوبة المتطلعة وجهوده ومثابرته التي بذلها في تحصيله العلمي العالي ,وربما البيئة كانت احد العوامل التي صاغة شخصيته الفذه , اذ نشا وتربى وتعلم في محيط النجف الاشرف الذي يعتبر من أعرق البيئات الثقافية الإسلامية قدماً ,فهذه المدينة المقدسة معروفة بثرائها العلمي والأدبي .
وبدون أدنى شك بأن ملكات شاعرنا الكبير كان لها الدور البارز في شخصيته ,فقدرته على جمع العلوم بين الدراسة الحوزوية والدراسة الجامعية الحديثة تجعلنا نطلق عليه النابغة المبتكر و الموسوعة التي قل نظيرها ,فمن الصعب أن تجمع الشخصية الواحدة عدة علوم ,فقد كان عالما دينيا بارزا ,واستاذا اكاديميا بارعا ,وخطيبا مؤسسا لمنهج الخطابة, و أديباً لامعاً ,وكاتباً إسلامياً عقائدياً .وشاعراً مرهفاً.
وكما برع الوائلي وفاق معاصريه في الخطابة كذلك في الشعر ,أذ برزت موهبته الشعرية التي كانت احدى سماته التي أظهرت للباحثين والمحبين بأنه صاحب موسوعة في ميادين الادب ,فهو شاعر ذو لسانين فصيح ودارج (شعبي).
أما الدارج الذي جاد فيه وابدع ,فقد كان يرتجله ارتجالا بأسلوب السهل الممتنع ,فأنشد قصائد رائعة كلها من عيون الشعر الشعبي كقصيدة (شباك العباس) وقصيدة (وفد النجف) وقصيدة (حمد) وقصيدة (سيارة السهلاني) وقصيدة (سوق ساروجه) وقصيدة (داخل لندن).
وأما الفصيح فأنه حقا جديرا بالدراسة المستفيضة ,فترى أشراقة الديباجة , وبريق الكلمات ,وفخامة الالفاظ في قصائده .
وهي قصائد تضاهي المعلقات ,فأن كانت بحق أهل البيت (عليهم السلام) تجد أناقتها وهي طافحة بالحرارة والتأثير .
وأن كانت رثاء او وطنية او سياسية أو غيرها ,فتجد عذوبة اللغة وحسن اختيار الالفاظ ,ويتحلى في كل وقفه بالأفق الواسع والوعي الكبير, فمره تراه ينعى فقيد, واخرى لتوعية الجماهير وأغلب قصائده ناقدا ومعالجا ,وتاره الشوق والحنين الى الوطن .
وفي شعره لم يلاحظ بأنه شاعر عاجز عن التنبيه والتوعية عما يجري من أحداث ,بل تراه يقف وقفة من يعرف الحل ويشير اليه.
وفي شاعريته اللغوية ,فكان غنيا ثريا يخرج المفردة من خزينه اللغوي لايضاح الصورة وعندها متى يريد مشيرا للدلالة التي يرمي اليها .
وكان يختار من المحسنات اللفظية ما يزيّن به مفرداته وتراكيبه الشعرية مما يجعل من نصه نصا قابلا للتلقي بأعلى درجة من القبول .
ورغم أن هناك قيود في الشعر تقيد الشاعر مثل التصرف في الالفاظ ,الا أن الوائلي أجتاز تلك القيود بموهبته وقدرته الشعرية ,فكان يتصرف بالمفردات دون عناء أو تكلف حيث كان يأتي بالتقابل التام بين المفردتين حين ينتج من ذلك دلالة أو صورة أو خيالا شعريا.
وأستعمل الوائلي نمط لغوي في شعره من مقابلة المفردات من دون أن يتعسف في تقابلها ,فيقول : وانطلقت الكلمة في فترة وأخرى باعتبارها أداة تسجيل رد الفعل بمختلف أقسامه: حزن وسرور، وسخط ورضى، وما الى ذلك من ضروب الانفعالات التي يفرزها الموقف...
وشعر الشيخ الدكتور كان متنوعا في صور التقابل الدلالي , فقد تأتي الألفاظ المتقابلة متجانسة، مألوفة الاستعمال، شائعة التراكيب .وقد تأتي الألفاظ المتقابلة غير متجانسة.
ونعني بمصطلح التقابل الدلالي وجود لفظتين تحمل كل منهما عكس المعنى الذي تحمله الأخرى، مثل: الخير والشر، والنور والظلمة، والحب والكراهية، والكبير والصغير، وفوق وتحت، ويأخذ ويعطي، ويضحك ويبكي...
وكان الدكتور الوائلي يكثر من استعمال التقابل المعنوي في شعره بسبب قيود الشعر,بمعنى انه يستعمل مفردات بديلة للمفردات التي يتوجب عليه إيرادها, فيطوع مفرداته للغرض الذي يريد من القصيدة , فيأتي بالمفردة وما يقابلها في تقابل تام أو متجانس .
وأذا جاءت أحدى قيود الشعر ,فأنه يلجأ الى المرادفات للكلمة المقابلة من دون أن يشعر المتلقي أن هناك إقحاما في التقابل,و في ابياته كان يريد ان يعطي دلالة مركزية واحدة ,فمن المقابلات في استعماله (الليل) مقابل (الصبح)، في قوله:
سألت ظلام الليل أن يتمددا فأعيا وخلّا السرب للصبح إذ بدا
وأورد مضامين الإشراق التي تقابل الأفول في قوله:
إنا نراك الغد المرجو نطلعه صبحا إذا ما ظلام الخطب يعتكر
وايضا كان ينوع في استعمال الألفاظ مستعينا بقريحته اللغوية وخزينه من المفردات ليعطي الصورة بدون غموض فيظهر الفكرة التي يرمي اليها .
وفي التقابل اللفظي كان يحسن اختيار المفردة من أجل أن تأتي متقابلة دلاليا في شعره ,فيأتي بالمفردة بدون أقحام بما يقابلها من المفردات المألوفة في التقابل ,وهذا يدل على انه هو المتحكم في أدوات الأداء الشعري مما يجعله رصين التعبير ومبهر الاسلوب .
ومن الامثلة على التقابل اللفظي في شعره قصيدته (في رحاب الرسول ) التي يخاطب فيها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مستعملا لفظتين متقابلتين هما ( أطفو ) و(أرسب), أذ يقول :
أتيتك بالأشواق أطفو وأرسب وكلي آمال وكلك مطلبُ
ونلاحظ الابداع وتصرف الشاعر في المفردات وأتى بالصيغة المقابلة وجعل التقابل متجانسا أو تاما من خلال استعماله الجذر اللغوي المقابل كما في (بُعد) ومقابلها ( أقرب) ذلك في البيت الثاني من قصيدة (في رحاب الرسول ) ,أذ يقول :
ملكت على بعد الديار مشاعري فأنت الى ذهني من الفكر أقرب
وهنا ربط الوائلي بين ( بعد) الديار و(قرب) الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) الى ذهن الشاعر .
وأما تصرف الشاعر في قيود الشعر ,فأنه يُبدل كلمة مكان أخرى غير مألوفة تقابليا من أجل أن يستغل إمكانية هذا التقابل في خلق أوسع دلالة لما يريده ,فكان الوائلي يستعمل المفردة البديلة أذا دعته ضرورة الوزن والقافية ,ولكنه لايبتعد عن الدلالة التي يريد الخروج بها من هذه المفردات البديلة كما جاء في قوله :
أطعموك الهوان من بعد عزٍّ وعن الحب نابت البغضاء
والمألوف أن يقابل ( العز) بـ (الذل ),لكن الشاعر استعمل (الهوان) مقابل ( العز) .
والمألوف في مقابلة (الحب) هو ( البغض),نراه قابل بين (الحب) و(نابت البغضاء).وهذا هو ما يسمى التقابل المعنوي .
واستعمل هذا التقابل في قصيدة بعنوان ( الى أبي تراب) ,أذ قابل بين( المغالاة ) و ( الاستخفاف ) في قوله :
غالى يسار واستخف يمين بك يا لكنهك لا يكاد يبين
وتميز شعر الشيخ الوائلي بخلق الصورة الحسية والفكرية عنده لكشف العوامل الكاملة للكلمة مستعملا الوسائل التي يملكها لتحقيق ذلك.
وهذا التميز في الصورة الحسية جعله مرتبطا بعمق الشعور مما جعل قصائده وابياته تخرج صادقة .
وكان نهجه و أسلوبه وطابعه في شاعريته هو التمسك بزمام القصيدة العربية العمودية حيث من خلالها عرض أفكاره وعواطفه إزاء المواقف التي دفعته الى قول هذا البيت أو تلك القصيدة .
ونرى استعماله بين التقابل اللفظي والتقابل الصوري في قوله:
والصبح أنت على المنابر نغمةٌ والليل في المحراب أنت أنين
وهنا التقابل بين لفظتي ( الصبح ) و ( الليل ) من جهة وبين (النغمات) و(الأنين) من جهة أخرى ومن هذا التقابل يتخيل المتلقي او يرسم صورة لحال الإمام (عليه السلام) وصورته صباحا في مقابل صورته ليلا.
ونستطيع القول بأن الشاعر الوائلي موهوب في خلق الصور الشعرية التي تعتبر ركن من اركان تقيم الشاعر ,فشاعرنا يمتلك الجودة والعمق والاصالة من خلال هذا العنصر المهمة والاساسي في الشعر .
وأحد نماذج التفابل الصوري قوله مادحا الإمام عليا (عليه السلام) مخاطبا ضيفا من ضيوف النجف الأشرف:
أفتّاح هـــــــــذا مربع في ترابه لحيـــــــــدرة جسـم وفي أفقه فكرُ
ثلاث وعشر من قرون تصرّمت وما زال منه فوق هذا الثرى عطرُ
وهنا يذكر الضيف بأنه في بقعة مقدسة ضمت جسم الامام , ولكن إذا ما غادرنا هذه البقعة التي لها حدودها فستجد هناك أفقا ليس له نهاية في فكره وعطائه الذي ملأ أركان الإنسانية بالتجارب الرائدة، وهو على هذا العطاء من ثلاثة عشر قرنا من الزمان الذي مضى.
ويكمل رسم اللوحات المعبرة للمحتفى به في تلك القصيدة حتى تتجسد الصورة عند الضيف ويكون عارفا بالمكان وصاحبه وحاله (عليه السلام).
واخيرا رحل هذا الشاعر الافخم من الدنيا الفانية ليترك لنا أثاره العلمية والادبية ,فله الديوان الأول والديوان الثاني من شعره, وجمعت بعض قصائده التي تنوعت في مضامينها في ديوانه المسمى باسم (ديوان الوائلي) والتي كانت من غرر أشعاره في المدح والرثاء والسياسة .
ونختم هذا المقال بأحد القصائد الخالدة لشاعرنا الوائلي والتي كانت موقفا صلبا وجرئيا تجاه السلطة في العراق أزاء موقفها المتميز بالطائفية المقيتة ,أذ القاها في مهرجان الأدباء العرب عام 1965م ,فقال :
بغداد يومـك لا يزال كأمسه صورٌ علـى طرفي نقيض تجمــع
يطغى النعيـم بجانب وبجانب يطغــــــــى الشقا فمرفّه ومــضيع
في القصراغنية على شفةِ الهوى والكوخ دمعٌ في المحاجر يلــذع
ومن الطوى جنب البيادرصرّع وبجـــــنب زق ابـي نؤاس صـرّع
ويد تكبّل وهـي مما يُفتدى ويدٌ تقبّل وهي ممـــــــــــا يُقطــع
وبراءة بيـد الطغاة مهانة ودناءة بيـــــــــــد المبرِّر تصنــع
ويصان ذاك لأنـه من معشر ويضـــــــــــام ذاك لأنّه لا يركــع
كبرت مفارقـة يمثّل دورُها باسم العــــروبة والعروبةُ ارفـع
فتبيّني هذي المهازل واحذرى من مثلهـا فوراء ذلك إصـــــبع
شُدّي وهزي الليل في جبروته وبعهدتي انَّ الكواكب تطلــــــع