الرسالة المطوية |
تحدثُ في مسيرة الزمن أشياء لم تكن في الحسبان ترسمُ لنا ذكريات أليمة وسعيدة في نفس الوقت. أحداث تمر عليها سنوات وسنوات ونضعها في خانة ألأشياء التي لايمكن الوصول إليها إلا بالكاد. من ألأشياء الخيالية التي حدثت هنا رسالة غريبة وصلتني من شخص لم أفكر يوماً ما أن تكون بيني وبينهُ مخاطبات أو أي كلام من أي نوع . حينما إشتدت الحرب في الثمانينات تلك الحرب المدمرة التي لم نكن نعرف السبب الحقيقي لوجودها- حربٌ إلتهمت كل شيء وجعلتنا نخوض في بحيرات من معاناة وأحزان لاتنتهي. لاتوجد عائلة في حرب الثمانينات لم تتأثر من جميع ألأطراف المتنازعة. على حين غرة وجدتُ نفسي مع آلاف المقاتلين من جميع ألأعمار والمراحل الدراسية نطلق الرصاص في كل ألأتجاهات ويطلقون علينا الرصاص من كل حدبٍ وصوب. لايحق لأي أحد السؤال عن سبب حضورهِ الى مساحات شاسعة من أرض لانعرف الى أين تقودنا. يتساقط الشباب من كلا الطرفين في بحيرات من دماء تغسل وجه ألأرض في كل لحظة من لحظات الليل والنهار. ليس موضوعنا هنا اليوم عن تاريخ تلك الحرب ولماذا تفجرت ولانريد الخوض في ألأسباب المباشرة وغير المباشرة عن سبب نشوء تلك الحرب المرعبة. موضوعنا هنا اليوم عن حادثة إنسانية تحتل جزءاً بسيطاً من آلاف الحوادث والحكايات ألأنسانية التي حدثت عند المقاتلين من كلا طرفي النزاع. كانت السماء ترسل رعداً وبرقاً وأمطاراً لاتنتهي وأنا وصديقي الشاعر الكبير نحتمي من تلك المياه المتدفقة إلينا من السماء ونحاول حماية أجسادنا من أزيز الرصاص المتدفق هو ألآخر من كل حدبٍ وصوب. كان زميلي المتخرج من نفس الكلية التي تخرجت منها يجلس قربي يحتضن بندقيتة يجلس على ألأرض. فجأةً أخرج قلماً وورقة وراح يخط كلمات شعرية يخاطب فيها حبيبتهُ الصغيرة – زهراء- ذات الثلاث سنوات. كان يحدثني عن إبنتهِ الوحيدة كلما جلسنا نلتقط أنفاسنا بعد خروجنا أحياء من أي معركة تفرض علينا في ذلك الزمن البعيد. عام 1985 تلك السنة التي عانينا منها أشياء ليس لها وصف من خوف وجوع وتعب وسهر ليالٍ لاتنتهي. قرأ على مسامعي تلك القصيدة الجميلة التي راح يبث من خلالها شوق لاينتهي الى حبيبته الصغيرة – زهراء- توسلتُ إليه ان يهدينني تلك الورقة الصغيرة التي خط عليها تلك الكلمات ولكن دون جدوى. بطريقة المزاح أخبرني أنه سيعطيها الى زهراء عند عودته الى البيت . أخبرني أن هذه الورقة سيدرسها زهراء حينما تتعلم القراءة والكتابة . قال لي ” سأحتفظ بهذه الورقة في كتابٍ من كتبي وسأوصي بأنها تسلم اليك بعد وفاتي..وسأكتب كل التفاصيل عنك بورقة أخرى مع عنوانك”. ضحكتُ عليه وعلى كلامة لأنني إعتقدتُ أنه كان يريد التخلص من إلحاحي الشديد ولم يكن يريد أن يسبب لي أي إحباط في ألأمال. تسرحنا من الجيش وإنتهت الحرب ولم أعد أعرف مكان صديقي الشاعر. سنوات مرت كأنها سراب . اليوم جائتني رسالة على النت – ولاأعرف كيف وصلت؟؟؟؟- كانت الرسالة على الشكل التالي ” ..عمو العزيز..أرسل إليك هذه الصورة من تلك الرسالة التي كتبها والدي وأنت تجلس معه في تلك الحفرة المرعبة التي تطلقون عليها في السياقات العسكرية – الموضع الدفاعي-. قبل ثلاث سنوات مات أبي وأوصاني أن أسلمك هذه الورقة المطوية. حدثني بكل شيء عنك. أعرف من تكون وأين تسكن وأعرف أدق التفاصيل عن ألأشياء التي تحبها وتكرهها. المعذرة لاأستطيع أن أسلمك النسخة الورقية ألأصلية لأنها تمثل كل حياتي. كتبها لي والدي وأنا لاأعرف حتى القراءة. اليوم قررت أن أبعث لك النسخة المصورة كي لاأكون جاحدة بحق والدي الذي أمرني بارسالها إليك..أنا أطلب منك أن تسامحني في هذا الموضوع. لاتقل لي كيف عثرتُ على وسيلة ألأتصال هذه . من يدري ربما أزورك في أي لحظة وأبكِ على كتفيكِ لأنك ألآن بمقام والدي. منذ أن تركنا البلاد الى بلادٍ أخرى بعيدة ووالدي يحدثني عنك لدرجة أنني شعرت وكأنني أعيش معك. ستكون هذه الرسالة المطوية بمثابة جسر كبير قوي لايمكن أن ينهار مهما حدثت عواصف في تاريخ الحياة البشرية. سأصل اليك بطريقتي الخاصة وسأجلب معي أبنائي الثلاثة. لاتسألني أين أنا ألآن وكيف أعيش لأنني لاأستطيع أن أقول لك أي شيء. حينما نلتقي سأحدثك بكل شيء عن والدي وكيف عاش بعد الحرب وأين عايش ولماذا رحل الى مكانٍ آخر. كل رسائلك الى أبي أحفظها عن ظهر قلب. أصبحت بالنسبةِ لي شيئاً مقدساِ . أعرف كل تفاصيل ألألم والجوع والخوف التي عاشها والدي معك في ذلك المكان المخيف. أرجو لك الصحة والعمر المديد.سنتواصل في مناسبةِ أخرى. إبنتك زهراء”.
كانت عيناي تلتهمان كل كلمة من كلمات تلك الرسالة القديمة المصورة بشغفٍ ليس له مثيل. كنت أتخيل اللحظات الرهيبة التي كنتُ أعيش فيها آنذاك وأنا أنظر الى صديقي وهو يخطها ويدهُ ترتعش من البرد الشديد وأصوات المدافع لاتتوقف لحظة واحدة. رحت أتلوها بصوتٍ مرتفع والدموع تنهال من مقلتاي كنهر لايتوقف عن الجريان ” زهراء عمري.. ولحنُ إصطباري. فدتكِ همومي..فَرُميّ إنهياريْ. وردي لعمريْ..بريق النهارِ. فقلبي سنينٌ..صريع الصواري. وقلبي خريفٌ..شريد البراري. وقلبي مسافرْ..والحزنُ داري. وقلبي شموعٌ..طفاها إنكساري. رمتني القوافي..وتاهت دياري. فطال إشتياقي..وطال إنتظاريْ. زهراءُ آبنتي ..أعيدي إنتصاريْ.”
|