وماذا عن التجارة غير المشروعة ؟ |
يثير مصطلح التجارة غير المشروعة إلتباسات عديدة، وذلك نظراً لشموليته من جهة، ومن جهة ثانية عدم الاتفاق على تعريف محدد يمكن تطبيقه على جميع البلدان التي تتفاوت قوانينها، بين عقوبات غليظة إلى عقوبات مخففة وأحياناً عدم اعتبار التجارة غير المشروعة جريمة يحاسب عليها القانون. وقد ألحقت التجارة غير المشروعة خسائر كبيرة في اقتصاديات العالم وضاعف منها الآثار الاجتماعية والصحية والنفسية والبيئية الخطيرة التي تركتها، وتشمل قائمة المواد التي يتم الاتجار غير المشروع طائفة واسعة من الحقول، ابتداء من النفط وصولاً إلى التهرّب من الضرائب، وما بينهما، فهناك الاتجار بالبشر وبالمخدّرات والمؤثرات العقلية، والتبغ ومنتجاته، والأدوية والأعضاء البشرية والآثار والممتلكات الثقافية، والأسلحة والذخائر، والصيد غير المشروع، وتهريب المهاجرين واللاجئين والبضائع المزيفة والأحجار الكريمة والأخشاب والأسماك والفنون، والسيارات والإرهاب والدين والملكية الفكرية والنفايات وغسل الأموال وتمويل الإرهاب إلى شبكات الدعارة والتجارة بالنساء والأطفال. وعلى الرغم من أن اتفاقيات دولية عديدة حاولت وضع التجارة غير المشروعة في إطار قانوني، كما هي اتفاقية بالميرو لعام 2000 ” اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة”، إلاّ أن هذا الميدان لا يزال زئبقياً على حد تعبير الخبير الستراتيجي فضل ظاهر، بمعنى تفلّته من الضوابط، وهو ما تثبته الاحصائيات الجنائية وتؤكده الوقائع . وقد جاء في كلمة الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان بمناسبة الألفية الثالثة في الإعلان التاريخي ” إن الاتجار بالأشخاص خصوصاً ، النساء والأطفال من أجل تشغيلهم بالسخرة وفي العمل الاستغلالي بما فيه الاستغلال الجنسي، هو من أفظع انتهاكات حقوق الإنسان التي تواجهها الأمم المتحدة الآن، وهو واسع الانتشار ومتزايد، ويكمن أصله في الظروف الاجتماعية والاقتصادية السائدة في البلدان التي ينتمي إليها الضحايا.” تعتبر التجارة غير المشروعة من المواضيع التي تشكّل مصدر قلق على الصعيد العالمي، بحكم تأثيراتها على الأسواق والاستثمار وانتهاك القانون والنظم الضريبية التي تستخدمها الدول لحماية مواطنيها. وإذا كانت هذه الظاهرة ليست جديدة ، إلاّ أنها بفعل العولمة والثورة العلمية – التقنية وثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الإعلام اتّسعت على نحو واسع، وأخذت تهدّد الملايين من البشر، خصوصاً بوجود شبكات دولية. إن العالم العربي من أكثر دول العالم معاناة وأضراراً من آثار التجارة غير المشروعة، وقد بلغت خسارته للفترة بين العام 2003 ولغاية العام 2012 نحو 739 مليار دولار أمريكي، وإن ما بين 8 بالمئة إلى 15 بالمئة من الدخل القومي يندرج في إطار التجارة غير المشروعة، وخلال الفترة المذكورة، فإن العراق وحده خسر نحو 89 مليار دولار، علماً بأن ما يصل إلى 7-10 بالمئى من مجموع التجارة العالمية، كان ضمن التجارة غير المشروعة، ويشكّل حجمها هذا رقماً مخيفاً على المستوى العالمي، حيث بلغ ضمن الأرقام التقريبية نحو 650 مليار دولار، علماً بأن هناك سرّية غير قليلة، تلفّ أنواعاً مختلفة من التجارة غير المشروعة. والتجارة غير المشروعة عابرة للجغرافيا والدول والقارات، والكمارك والمعابر والمطارات والموانئ والحدود، ولأنها تدرّ أرباحاً كبيرة، فإن بعض أصابع الحكومات ليست بعيدة عنها، لاسيّما للجهات المتنفذة فيها، خصوصاً في ظل غياب حكم القانون وعدم استقلالية القضاء ومهنيته ونزاهته، إضافة إلى ضعف البرلمانات ومؤسسات الرقابة، بما فيها ضعف المجتمع المدني. ويتكيّف العاملون في حقل التجارة غير المشروعة مع التطورات العلمية والتكنولوجية ، ويتساوقون مع الجديد فيها، بل إنهم يتمتعون بحيوية وديناميكية مع القوانين والتشريعات الجديدة، ويجدون نقاط ضعفها للتسرّب وتحقيق أهدافهم، وبالطبع فإن تبعات ذلك تقع على المستهلك أولاً وعلى خزينة الدولة والعمالة وفرص العمل وعلى قضايا العدالة بشكل عام. ولحدّ الآن فإن الجهود الرسمية العربية لمكافحة التجارة غير الشرعية، لا تزال قاصرة، أما بسبب غياب الخبرة أو التساهل في إصدار التشريعات لتحريمها وإنزال عقوبات شديدة بالقائمين عليها، وقد يعود ذلك إلى تواطؤ بين أطراف في الدولة ومن يقوم بعملية الاتجار غير المشروع، وكذلك بفعل شحّ التخصيصات في هذا الميدان، ناهيك عن ضعف التعاون العربي بشكل خاص والتعاون العالمي بشكل عام. وتلعب تجارة الآثار والممتلكات الثقافية دوراً كبيراً في التجارة العالمية، خصوصاً وأن هناك دولاً مصّدرة، مثل العراق وسوريا والأردن وفلسطين والصين والفيتنام ولبنان، ودول مستوردة مستعدة لشراء الآثار والممتلكات الثقافية المهرّبة، وخصوصاً الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها من البلدان الغربية. وبالنسبة للممتلكات الثقافية هناك سرقات ممنهجة وسرقات مبدّدة، والكل يخضع للسوق وللعرض والطلب، والقضية تتعلق أيضاً بتزوير الوثائق وما حصل للعراق بعد احتلاله العام 2003 دليل على تنوّع وسائل التهريب، خصوصاً بعد سرقة متحف بغداد، ثم سرقة وتدمير آثار نينوى بعد احتلال داعش للموصل في العام 2014. وهناك بيع النفط بمعزل عن الدول، وقد اتخذت داعش طـــــائفة من الخطوات على هذا الصعيد وأوجدت سوقاً خاصة لبيــــــــع النفط بأسعار زهيدة بعد استخراجه من بعض الحقول، وهو ما اضطرّ مجلس الأمن لإصدار قرار رقم 2199 في 12 شباط (فبراير) من العام 2015 لتحريم بيع النفط بهدف تمويل العمليات الإرهابية . العالم بحاجة إلى تعريف شامل للتجارة غير المشروعة وإجراءات رادعة، ومثلما أن كل دولة بحاجة إلى إصدار قوانين وتشريعات لعقوبات غليظة، فإن بعض البلدان لا تعتبرها جريمة حتى الآن، ويحتاج الأمر إلى حملة توعية كبرى يمكن أن يسهم بها الإعلام بجميع أشكاله المرئي والمسموع والمقروء، بهدف رفع الوعي، كما يحتاج الأمر إلى تعاون دولي وتبادل المعلومات والتحليلات القانونية وإبرام اتفاقيات لتسليم المجرمين. ويتطلّب ذلك تعزيز دور القضاء وتفعيله لكي يكون قادراً على مواجهة التحدّيات بشأن العقوبات التي يمكن أن يتخذها إزاء جرائم التجارة غير المشروعة، والمسألة أيضاً بحاجة إلى تدريب وتأهيل العاملين في هذا المجال، وكذلك تعزيز دور المجتمع المدني، لكي يكون راصداً ورقيباً بل وشريكاً في عملية وضع حد للتجارة غير المشروعة. ومن الضروري بمكان بحث آليات الوقاية والشراكة بين القطاعين العام والخاص، والاستفادة من الخبرة الدولية على هذا الصعيد ، خصوصاً تنفيذ ما ورد في الاتفاقيات الدولية، ولاسيما اتفاقية بالميرو. إن عملية التجارة غير المشروعة ومكافحة الفساد والجريمة المنظّمة، وكل ما يرتبط بها من أعمال، تعتبر ركناً مهماً من أركان مبدأ حكم القانون والنزاهة، الذي لا بدّ أن يرتكز على قواعد العدالة والإدارة الرشيدة ” الحوكمة”. وبالنسبة للعالم العربي، فلا بدّ من رفع الصوت عالياً للتحذير من مخاطر التجارة غير المشروعة، والدعوة لتعاون عربي فعّال في جميع المجالات والاختصاصات، وبحث موضوع توحيد أو تقريب القواعد القانونية الناظمة لمكافحة التجارة غير المشروعة، إضافة إلى تبادل الخبرة والمعلومات، ومن الضروري التوجه سريعاً لسد النواقص والثغرات الدستورية والقانونية على هذا الصعيد، بما يؤثر على الأمن الوطني في كل بلد وعلى المستوى القومي والإقليمي، خصوصاً دوره الكابح لعملية التنمية. لقد كانت هذه المواضيع كلّها مطروحة على بساط بحث ضم نحو 25 خبيراً عربياً ودولياً برعاية وزارة العدل اللبنانية وبتنفيذ من المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة (وهو مركز أكاديمي متخصص) وشارك في الحوار خبراء من وزارة التجارة والاقتصاد وقوى الأمن الداخلي، ومنظمة الأسكوا واليونسكو والانتربول وجمعية حماية المنتجات والعلامات التجارية وصحافيين وعلماء آثار وخبراء في المياه والطاقة ومن البرنامج الإقليمي للأمم المتحدة الخاص بالمخدّرات والجريمة وغيرهم.
|