عشر سنوات بعد سقوط الصنم... أين صرنا! |
يُحكى في التراث الشعبي العراقي أن هناك سارق وقاطع طريق في البصرة أسمه معيط. كل الناس تعرف وتلعن معيط لعنا ً شديدا ً لأنه كان يسرق أكفان الموتى الذين يُجلبون من أيران فيُدفنون في البصرة بإسم الوديعة لحين نقلها بالقوارب التي تسمى الكلك آن ذاك إلى الكوفة, وذلك عبر شط العرب وبعدها عبر نهر الفرات لتصل إلى النجف حيث مستقرها الأخير. فلما مات معيط ارتاح الناس من شره فصاروا يلعنونه أمدا ً طويلا ً ليرتبط أسم معيط باللعن بشكل تلقائي. لكن معيط وقبل أن يتوفاه الأجل أوصى إبنه شعيط بإن لا يدخر جهدا ً برفع اللعن عن أبيه معيط لينشغل عنه الناس. فكر شعيط كثيرا ً بالأمر فتوصل إلى حل وحيد يستطيع به رفع اللعن عن إسم أبيه, وذلك بالقيام بفعل أكثر شناعة من فعل أبيه معيط, وبذلك ينسى الناس أبيه ويلعنوه هو بدلا ً عن أبيه. وعلى هذا الأساس قام شعيط بسرقة أكفان الموتى كما كان يفعل أبيه في السابق لكنه لم يكتف بذلك فقام بوضع خازوق بمؤخرات هؤلاء الموتى ممثلا ً بجثثهم. فلما عرف الناس بالأمر صاروا يرددون, رحم الله معيط الذي كان فقط يسرق أكفان الموتى, ولعنة الله على شعيط الذي يقوم بالتمثيل بها. وبهذه الحيلة رفع شعيط عادة اللعن التي رافقت أسم أبيه بذكاء شيطاني نادر. يقال أن الأمثال تضرب ولاتقاس, فحال الشعب العراقي المسكين بعد عشر سنوات من سقوط الصنم كحال الموتى الذين سرقت أكفانهم ومثل بهم بين شعيط ومعيط. لقد ذكرت هذه الحكاية سابقا ً في مقال قديم وأذكرها الآن لأني أعتقد أنه الوصف المناسب الذي يقطع الطريق على أولئك الذين يقولون أن كل الويلات أتت بعد سقوط النظام السابق وكل من يحاول أن يقارن بين عهدين, إذ أن أحدهما هو إمتداد للثاني ونتيجة طبيعية له, وبذلك أكون قد تجاوزت نقاش المقارنة بين عهدين. إذن, في مثل هذه الأيام, قبل عشر سنوات بالضبط, سقطت بغداد بيد الاحتلال بشكل مهين بعد أن تركها النظام وفر منها بينما كان يتوعد بالويل قبل سقوطها. عشر سنوات على تهاوي الصنم في ساحة الفردوس, حيث إشرأبت وجوه متعبة لبزوغ الشمس في مشرق جديد, وتجهمت وجوه مطفأة العيون من إنتهاء زمن كانوا ينعمون به بخيرات هذا البلد في ظل هذا الصنم الذي بدا ضعيفا ً يترنح أمام عدسات المصورين يلفه علم أمريكي لعشرين دقيقة وكأنها رسالة واضحة بأن لولا الأمريكان لما سقط النظام السابق. أما الغالبية الصامتة, ضحية شعيط ومعيط, فكان يعلوا وجهها الحيرة ومزيج من فرح يشوبه الخوف, نعم, الخوف من المجهول, فهم يعلمون أن سقوط النظام كان حقا ً يراد به باطل. فليس لسواد عيون العراقيين جاء الأمريكان والبريطانيين لينهوا حكما ً دام أكثر من ثلاثين عاما ً.فقد كشفت صحيفة الأندبندنت البريطانية أن شن الحرب على العراق كان أمرا ً قد دبر بليل بين جورج بوش وتوني بلير في رحلة نهاية أسبوع قام بها الأخير لولاية تكساس الأمريكية بصحبة بوش وحده من غير حضور مستشاريهم, وأن الرجل رجع إلى بريطانيا مقلوب رأسه, بالرغم من التقارير التي أعدتها المخابرات البريطانية والتي ذكرت أن العراق لايشكل خطر في الوقت الحالي, بل أن ليبيا هي الأولى بشن الحرب لإنها تحضر لإمتلاك أسلحة محظورة. سقط النظام وجاء الأمريكان ببريمر, حيث لاخطة هناك لما بعد السقوط, فكل شيء كان يتم بشكل عفوي تلقائي بلا أدنى تخطيط مسبق. ليس هذا فحسب, حتى أن المعارضة العراقية لاتملك مشروعا ً مسبقا ً عما سيكون عليه شكل العراق لما بعد السقوط, ففرقة ترى العراق دولة إسلامية وأخرى دولة علمانية, وأخرى فيدرالية وأخرى دولة عربية قوية في المركز, وهكذا. كل شيء كان يجري بشكل عفوي وإرتجالي وبقيت الأغلبية الصامتة صامتة لغياب التظيم بعد موت الحياة السياسية في العراق لأكثر من ثلاثين عاماً وموت الطبقة الوسطى الكفيلة بالتغيير في حصار مخطط له أن يدمر هذا البلد دام لأكثر من عشر سنين. عرقلات ومشاكل سياسية بدأت مع بداية المحاصصة الطائفية ثم ذهبنا لكتابة الدستور ومع زعل فلان وترضية فلان مضى الدستور. في تلك الأثناء, كانت حدود العراق مفتوحة وجدرانه خاوية إذ تكفي ليتسرب منها المتشددون وكأن الأمريكان على موعد مع هؤلاء لينقلوا الصراع من افغانستان إلى العراق. أما العراقيون فقد ذهبوا للشراكة السياسة وفي جيوب سياسييهم مشاريع طائفية يكسبون بها رضا الجمهور بعد أن صار العراق بلد ديمقراطي. فالأغلبية الصامتة يستميلها فلان وفلان من السسياسيين بعد أن يدغدغ مشاعرهم الطائفية ويخلق لهم أعداء طائفيون وهميون. أما الآن, وبعد عشر سنوات من سقوط الصنم, لم تصمد الشراكة حيث يلوح البعض بحكومة الأغلبية. غرق العراق بالفساد وصار مرتعا ً للإرهاب وهو يتجه للتقسيم لامحالة إذا ما أستمر الوضع لما عليه, لاخدمات ولامشاريع ولاشيء جديد سوى عدة آلاف من المدارس الطينية ومستوى عال لخط الفقر, والفارق الوحيد هو الميزانية التاريخية التي تمتلكها الدولة. السؤال المهم, هل راجعنا أنفسنا بعد كل تلك السنين, هل كان السبب هو النظام السابق وحزب البعث والإرهاب في تأخر العراق على جميع الميادين والأصعدة أم أن هناك أسباب أخرى, كقبولنا أن نكون ضحايا لشعيط ومعيط! بالقلم العريض, هل كان النظام السياسي السابق سببا ً لكل ما حصل أم كان نتيجة طبيعية لثقافة بائسة تعشق الدكتاتورية والتسلط وإلغاء الآخر والتشدد في كل شيئ. مع الأسف الشديد, الغالبية العظمى من السياسيين, وهناك أيضا بعض من المثقفين والاكاديمين, كانت تظن بأن بزوال الصنم ستزول مصائب العراق ومآسيه, لا أعرف إن كانت تلك الفكرة ناجمة عن تدن بمستوى الوعي لدى الطبقة السياسية لإنفصالها عن الوسط الثقافي الذي كان سينورها بالحقيقة, أم كانت تعرف بما سيحدث ورغم ذلك مضت بمشروعها الهادف للتغيير من خلال الحرب. في الحقيقة أن المشكلة في العراق ليست سياسية فقط بل هي ثقافية في جذورها, فليس النظام السياسي في العراق وحدة بحاجة لمراجعة شاملة بل ثقافتنا بحاجة لمراجعة شاملة, فالثقافة تمرض إن لم يتم تطويرها. فنحن بحاجة لنقد ثقافتنا, إعادة النظر بما هو صح وماهو خطأ مما هو سائد في مجتمعنا, إعادة إنتاج بعض المفاهيم عن الحرية والديمقراطية والمساواة, عن الآخر المختلف في الدين واللون والقومية, عن المرأة والدين ومعنى الوقت. بإختصار شديد, ثقافتنا بحاجة للتحول من طابعها التقليدي إلى ثقافة عصرية حداثوية. فبهذه الطريقة فقط يمكن أن ننجو, فلا يمكن تصور نظام ديمقراطي تعددي فيه هذا الكم الهائل من الهويات الفرعية والثقافات المتعددة أن يستمر ويكون فعالا ً مالم تصاحبه ثقافة عصرية حداثوية تكون مرجع لكل شيئ فيه. هل أعدنا النظر في ثقافتنا؟ هنا تكمن المشكلة إن كان الجواب لا! سقط الصنم, وتشظى ليصبح ألف صنم لكل مسؤول وشخصية سياسية, وربما لكل فرد عراقي, حتى كأن الصنم الكبير نفسه الذي تهاوى كان صنيعة من أصنام تكمن بداخلنا نعبدها. عشر سنوات ومازالت تلك الأصنام الصغيرة بدواخلنا تنمو وتتجذر منذ مئات السنين لأن ثقافتنا ثقافة تعشق الأصنام وتحب عبادتها. أما الأغلبية الصامتة فلازالت صامتة لأنها لاتزال تعشق الأصنام وتكره الحرية الكامنة في تحطيم تلك الأصنام الصغيرة التي أصبحت أصناما ً طائفية بإمتياز, لتضل ضحية بين شعيط ومعيط! |