الحدود ترسمها الدِماء

أولُ الغيثِ قَطْرَةُ مَاءْ ... وأولُ الحَربِ قَطْرَةُ دم
ترددت كثيراً قبل أن أشرع في كتابة هذا المقال إلاّ أنني آثرت المُضي قُدُماً واضعاً نُصبَ عينيّ أنه حينما يكون المستهدف هو العراق وأهل العراق ، يُصبحُ الحيادُ خيانة ، والصمت تواطؤًا !! واضعاً نُصبَ عينيّ أننا في العراق كمن يعيش في بيتٍ عامرٍ واحدٍ، إذا تهاوى أحد أركانه أو جدرانه أو زواياه فسينهار البيت بالكامل ، فنكون كمن يركب في سفينة تمخُر عباب البحر الهائج المتلاطم الأمواج في يومٍ عاصف ، فإذا خُرقت السفينة من أي حدبٍ أو صوب فسيغرق الجميع واُشهد الله أن حُبي لكل أهل العراق بشتى مشاربهم هو الوازع الرئيس وبشكلٍ خاص أهلنا الكورد الذين شاركونا أفراحنا وأتراحنا وتقاسموا معنا آخر رغيف خبز قبل أن تعصف بنا ريح المنون ، عسى أن يكون لكلماتنا صداها وتلامس شغاف قلوبٍ سئمت رائحة الموت ولون الدماء والقتل والتهجير وما دفعني لخوض سبرِ أغوارِ هذا الخطب المُدلهم بضعة تساؤلات :
إحتلال الإتحاد السوفيتي لأفغانستان أنتج القاعدة و ...
إحتلال أميركا للعراق أنتج داعش و ....
سياسة ( الحدود ترسمها الدماء ) ما الذي سيتمخض عنها ... ؟؟؟ !!!
في ظل تنامي الإحتقان العربي (السُني والشيعي) والتركماني (السُني والشيعي) والمسيحي الآشوري بكل طوائفه و...... وإرتفاع الأصوات التي تطالب بردع سياسة الأحزاب الكردية ولجم شهية إبتلاع الأراضي وتغيير ديموغرافيتها وفرض سياسة الأمر الواقع ، والمتنازعُ عليها ، والحدود ترسمها الدماء و... وبالعودة إلى أسباب الحرب العالمية الثانية التي كانت رداُ على سياسة (المجال الحيوي) التي إنتهجها الفوهرر أدولف هتلر خاصةً وقد إنفتحت شهيته لإبتلاع دولٍ بكاملها بإعتبارها المجال الحيوي لألمانيا ، كانت تداعيات الأمر ما لا يخفى على الجميع ، وكما أن أول الغيثِ قطرةُ ماء فكذا الحال فإن أولُ الحربِ قَطرةُ دم وما حدث في طوز خورماتو لم تجف دماء الضحايا ولا دموع أحبائهم من كُل الأطراف ،  لذا سأتناول الأمر على شكلِ أجزاء بدءاً بالقوميات ثم الأديان لئلا نُثْقل على نواظر القراء الكرام :
أولاً : التركمان ضحية أم جُناة :
يُعتبر أهلنا من القومية التركمانية هم ثالث أكبر قومية بعد العرب والأكراد ولا نُذيع سِراً إن قُلنا أن التُركمان دالت لها الدنيا إذ حكموا ما يقارب ثُلي مساحة الأرض المعمورة زهاء ستة قرون إبّان حُكم أسلافهم السلاطين العثمانيين ومن وفد منهم إلى العراق فقد قَدِم ممتطياً صهوة جواده ، وأما مراكز ثقلهم فهي مدينة كركوك ( عاصمة محافظة التأميم) سابقاً وقضاء تلعفر في محافظة نينوى أقصى شمال غرب الموصل الذي يُعّدُ أكبر أقضية العراق وقضاء طوز خورماتو ومعناه في اللغة التركية (الملح والتمر) وكنا قد أسميناه فيما مضى ( خوين رشتن و كوشتن ) أي مدينة القتل والدماء بــــ (اللغة الكردية) وهذا القضاء يعتبر عُقدة المواصلات التي تربط العاصمة بغداد بكلٍ من محافظات ديالى ثم السليمانية وصلاح الدين وكركوك وصولاً إلى الموصل ومن يُحكم القبضة على هذا القضاء أو الأرض الحيوية أو العارضة (الجيو سياسية) فقد أمسك بزمام الأمور لذا فقد نزفت مدينة الطوز الكثير من الدماء وضُربت بعشرات المُفخخات وما التغيير الديموغرافي عن ذلك ببعيد وقد تناولناه في مقالٍ سابق بعنوان ( إذبحوا الثور ... إكسروا الحِب) ، ثم ناحية السعدية وجلولاء وخانقين وبعض مدن محافظة ديالى .... وبالعودة إل تلعفر التي وصفها ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان وقال ( تل أعفر ،ـ ويقال تل يعفر ، وقيل إنما أصله،  تل الأعفر: للونه وهو اسم قلعة وربض بين سنجار والموصل وفي وسطه وادي فيه نهر جاري على تل منفرد ، حصينة محكمة وفي مائها عذوبة وبها نخيل كثيرة يجلب رطبه إلى الموصل)  يقارب تعداد نفوسها 500,000 أي ما يقارب  نصف مليون نسمة فما أن ضرب الإحتلال الأميركي للعراق عام 2003م أطنابه حتى أحكمت الأحزاب الكردية قبضتها عليه لأسباب عدة  :
1 . الموقع الجغرافي لمدينة تلعفر وثرواتها :
تقع مدينة تلعفر على بعد حوالي 70 كم شمال غربي الموصل وتبعد عن الحدود العراقية التركية بحوالي 38 ميلاً وعن شرق الحدود العراقية السورية بحوالي 60 كم  وتعتبر أراضي المنطقة بشكل عام من أخصب الأراضي الزراعية العراق ووفرةً من الثروة الحيوانية، كما أن فيها أكثر من خمسة حقول نفطية وثلاث معامل للإسمنت، وتضم بين جنباتها مشروع رَيِّ الجزيرة الشمالي الاستراتيجي المهم مع بحيرة سدِّ الموصل (سد صدّام ) سابقاً الخاضع لنفوذ إقليم كردستان، فهي تضم مصادر الموارد المائية الأساسية في العراق، إضافة إلى توليد الطاقة الكهربائية، وكانت الاستعدادات جارية لتنفيذ مشروع رَيِّ الجزيرة الجنوبي قبيل أحداث 10 حزيران 2015م ،  ونستعرض هنا لمحة على عجالة عن تاريخ تلعفر الذي يرجع إلى ما قبل التاريخ أي (6000 ق. م) وفي حوالي منتصف الألف الثاني ق. م أصبحت تلعفر مع  سنجار جزء من الدولة الميتانية وفي العهد الآشوري نمت وتوسعت وبنت قلعتها الأثرية وكانت تعرف باسم (نمت عشتار) ، بعد سقوط نينوى كانت منطقة تلعفر والجزيرة كلها مسرحاً للحروب الطويلة التي جرت بين الحيثيين والرومان الذين جددوا قلعتها  وفي  عصر صدر الإسلام فتحت منطقة تلعفر سنة 18 هـ في عهد الخليفة عمر بن الخطاب (رض) على يد القائد عياض بن غنم ، ثم أصبحت تلعفر في العهد الأموي موطناً للخوارج ومسرحاً للحروب التي جرت بينهم وبين الأمويين وكان مروان الثاني بن محمد والياً على منطقة الجزيرة وعندما آلت الخلافة إليه قاد جيشاً للقضاء على فتن الخوارج وقيل أنه بنى قلعتها فسميت بقلعة مروان ثم تتابع عليها العباسيون والسلاجقة في زمن أميرها (طغرل بك) ، ثم دالت تحت النفوذ الإليخاني عام 738 هـ - 1328م فالجلائري وبعدها أصبحت مدينة تلعفر جـزأ مـن ( دولة قرة قوينلو) التركمانية عام 814 هـ - 1411 م ومن بعدها أصبحت جزأ من ( دولة آق قوينلو) التركمانية وفي عام 914 هـ - 1508 م أصبحت تلعفر جزء من الدولة الصفوية ، وفي عام 941 هـ - 1534 م أصبحت مدينة تلعفر جزأ من الإمبراطورية العثمانية منذ عهد السلطان سليمان باشا وهو أول والي عثماني في العراق حتى انسحاب الجيش العثماني من الموصل وتلعفر في عهد الوالي خليل باشا، واحتلال الإنكليز للعراق عام 1336 هـ - 1917 م ثم سيطر الإنكليز على الموصل وتلعفر بعد قتال طويل دام ثلاثة سنوات أي في عام 1920 م ، وفي بداية شهر حزيران من العام ذاته بدأت ثورة العشرين التي قُتل فيها (الكابتن ستيوارد)  وأسر نائب الحاكم السياسي البريطاني (الميجر بارلو) وعندما حاول هذا الأسير الفرار من أيديهم تم قتله من قبل الثوار ،  وأول شهيد إرتقى في هذه الثورة المباركة هو الشيخ صالح نجل الشيخ أحمد الخضير الجحيشي وتم دفنه في مقبرة (الألاي بك) في تلعفر ليكون الشيخ صالح أول شهيد يرتقي في معركة الشرف والاستقلال .
2 . خارطة خطوط تصدير النفط العراقي إلى طرابلس وحيفا وبانياس :
لقد تم بعد الحرب العالمية الثانية مد أنابيب تصدير جديدة لترفع طاقة التصدير لحقول شمال العراق تدريجياً من 80 ألف برميل باليوم في عام 1935 الى 1.4 مليون برميل باليوم في نهاية العقد السابع من القرن الماضي ندرجها باختصار شديد أدناه :
أ . خط كركوك –  حيفا بقطر 16 عقدة الذي كان في مراحل إنشائه الأخيرة في عام 1948 والذي توقف العمل به ليترك دون أن يدشن بسبب
 الحرب في فلسطين ويبلغ طول خط أنابيب كركوك – حيفا 992 كيلومتر .
ب . خط كركوك –  طرابلس بقطر 16 عقدة في عام 1949 ويبلغ طول خط أنابيب كركوك – طرابلس 928 كيلومتر 
ج . خط كركوك – بانياس بقطر 32 عقدة وطول 888 كيلومتر في عام 1952
د . خط كركوك – طرابلس بقطر 32 عقدة في عام 1965
ه . الخط الإستراتيجي للضخ باتجاهين بين محطة ضخ (كي 3) قرب مدينة حديثة على الفرات وحقول البصرة بقطر 42 عقدة وطول 730 كيلومتر في عام 1975
و . الخط العراقي التركي الأول كركوك –  ميناء جيهان بقطر 40 عقدة وطول 1005 كيلومتر في عام 1977
ز . الخط العراقي التركي الثاني كركوك –  ميناء جيهان بقطر 46 عقدة في عام 1987
بعد أن إستعرضنا خطوط نقل النفط العراقي التي أوردها الأستاذ (غانم العنّاز) في بحثه (النفط وإكتشافه في العراق) بقي لنا أن نعرف أن خطوط النفط المتجهة إلى ميناء جيهان في تركيا أو خطوط النفط المتجهة إلى حيفا تمر عبر تلعفر ، وفضلاً عن أنابيب النفط المتجهة إلى حيفا فهناك أنابيب تنقل الماء العذب من نهر دجلة في الموصل إلى حيفا تم  إنشاؤها ومدها بموازاة خطوط نقل النفط ، ليُصبح الأمر نكالاً على المدينة وأهلها كما سيتجلى الأمر لاحقاً
3 . دق أسفين الفرقة بين التُركمان :
يسكن مدينة تلعفر عدد من العشائر التركمانية ولكل من هذه العشائر مناطقها التي تسكن فيها وتتشابه العادات الاجتماعية والأعراف فيما بينها ولها تقاليد مميزة في الزواج والأعياد والأفراح والأتراح وسائر الاحتفالات الدينية والوطنية والقومية ، ومن أهم العشائر التركمانية في تلعفر هي( الألاي بك ، ايلخانلي، الله ويرد يلي، علي ديوه لي، بابالار، بكلر، جلبي، جولاقلي، سيدلر، نجارلار، مرادليلر، سرايليلر، دميرجيلر، قرة قوينلو، ديوه جي، بقاللي، أق قوينلو، محمد أغالي، قصابلر، خانليلر، حمولي ، عجملي، حربو، قوروتلي، موللالي، نفطجي، فرهادليلر، علي خان بك، داودلي، همتليلر، بيرقدارلي، قابلان، ماوليلر و....) فضلاً عن العشائر العربية التي سكنت تلعفر بحكم التغريب أو طلباً للرزق وغيره أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من المجتمع التركماني كما هو الحال مع عشيرة الحيدري أو الحيادرة وهم بطنٌ أو عشيرة من قبيلة السادة السبعاويين الموسوية الحسينية وكذا هو الحال مع عشيرة السادة الحياليين الحسنية ، وعشيرة الطحّان العُبيدية وعشائر تركمانية أصولها من قبائل الجحيش العربية  وغيرها الكثير .....
وقد زادت حالة التصاهر من متانة عرى النسيج الإجتماعي ، وبطبيعة الحال ينقسم التركمان إلى تركمان سُنّة وتركمان شيعة حتى ضمن العائلة الواحدة فتجد قسم من الإخوة الأشقاء ما بين سُني وشيعي ولكن ما كان لهذا الأمر أن يَفُتَّ في عَضُد الساعد التركماني ، إذن كيف السبيل إلى تفتيت هذا التلاحم المصيري ؟
لتفتيت أواصر التلاحم لابد من صرف التركمان عن الهوية الكُليّة العراقية وصرفهم عن هويتهم القومية التركمانية إلى الهوية الجزئية وتغليب الطابع المذهبي على كُل المُسميات !!! رُب سائلٍ يسأل ولماذا ؟ ليأتيه الجواب : لو أن التركمان خاضوا معترك الحياة السياسية بقوميتهم التركمانية لكان نصيبهم من مقاعد البرلمان ما بين 25 إلى 30 مقعداً في البرلمان العراقي الأمر الذي سيكون لثقل صوتهم الأثر الكبير والحظ الوفير في معادلة الحياة السياسية .... وبتكريس الطائفية ستُصبح حظوظ القومية التركمانية صفرٌ على الشمال ويكونوا تبعاً للقوائم الكبيرة بكل مسمياتها الأمر الذي سينجم عنه تلاشي حظوظهم من كل المعادلات السياسية والإجتماعية والقومية والإقتصادية و... إذ سيكونوا كورقةٍ صفراء تعصف بها الريح وربما في قابل الأيام ستؤول الأحوال بهم مشردين لا مأوى ولا وطن وسيُنظر إليهم بإعتبار أن وجودهم طارئ و ..... 
4 . ضياع وطن كان موئلاً للتركمان :
ما أن أريقت أول قطرة دم في الإحتراب والإقتتال التركماني التركماني ونشبت الحرب الأهلية حتى شهدت مدينة تلعفر أكبر ظاهرة هجرةٍ كارثيةٍ حيث بدأ التهجير القسري والإختياري للمواطنين، علماً أن الإحصائيات المُعتمدة في محافظة نينوى تُشير إلى أن أعداد المُهجرين بلغَ أكثر من  120 ألف مواطن تركماني سُنّي باتجاه مدينة المَوْصل والمحلبية والرشيدية وربيعة والقرى المنتشرة في المنطقة ، الأمر الذي جعل المُهجرين من التركمان لُقمة سائغة لكل من هَبَّ ودَبَّ من القوى الداخلية والإقليمية والدولية ، وكالكرة يلعب بهم كلُّ صاحب مصلحة وهوًى ليتحول الكثير منهم إلى آلةٍ وأداة للقتل إنعكست سلباً على محافظة نينوى بأسرها فضلاً عن مدينة الموصل ، وأنا أتحدث عن هذا العدد قبل أحداث 10 حزيران 2014 م فما بالك اليوم وقد تكاد خلت تلعفر من كُل أهلها من التركمان الشيعة الذين غَصّت بهم المحافظات في شمال ووسط وجنوب العراق وهنا يَحقُ لنا أن نسأل أو نتساءل لصالح مَن آلت الأحداث فإن أعيتنا الحجة في إدراك الإجابة ، بَحَثنا عن المُستفيد من عملية خلط الأوراق ومعرفة مَن تسبب في نهر الدماء وفجع العوائل بفلذات أكبادها ويتم الأطفال ورَمّل النساء وثَكّل الأمهات بأبنائهن ... وسيأتينا تفاصيل الإجابة عن كُل تساؤلاتنا لاحقاً من خلال الأجزاء اللاحقة من البحث أو المقال التحليلي ..