المالكي..محطّم العراق الجديد

لم يكن الـ20 من حزيران من عام 1950 يوماً عادياً، على الأقل ليس حتى في السنوات العشر الأخيرة، فهو يومٌ

ولد فيه شخصية إشكالية، انقسم بشأنها العراقيون، كعادتهم، بين مَن يراها "شخصية وطنية ضرورية"، وبين مَن يراها منبعاً للأخطاء والحماقات السياسية.

ولد نوري كامل المالكي في منزلٍ بقضاء طويريج، الواقع بين بابل وكربلاء، وهو حفيد لمحمد حسن أبو المحاسن، النائب عن كربلاء في مجلس الثورة بعد اندلاع ثورة العشرين، والوزير ذي الولاية القصيرة، عكس حفيده، في وزارة المعارف في وزارة جعفر العسكري.

نشأ المالكي في بيت متديّن ذي نزعةٍ إسلاميّة، كعادة أهل الريف البسطاء في القضاء، فنشأ الفتى نشأة اعتيادية، وهذا ما أكده بعض مَن جاوره بطفولته، وكان لا بُدَّ من النزول الى بغداد، حيث درس، بعد انتهاء المراحل الأولية، في كلية أصول الدين، لينال بعدها الماجستير في اللغة العربية، من جامعة صلاح الدين في أربيل، والمفارقة أنّ مشرفه فيها كان رئيس الجمهورية الحالي د.فؤاد معصوم.

ومع بدء الحرب العراقية – الإيرانية، وحظر صدام حسين لحزب الدعوة ونشاطاته، كان أمام المالكي الشاب خياران: التفريط في انتمائه لحزب الدعوة الإسلامية، الذي انتمى له عام 1970، أو الهروب بدينه وقيمته الرمزية، الى سوريا، فكان الخيار الثاني أفضل، من وجهة نظره.

وما بين سوريا وإيران، تنقّل المالكي لسنوات، فحزبُ الدعوة انشقّ لجناحين، الأوّل لم يرَ ضراً من الوقوف بمعسكر إيران وولاية الفقيه في حربها ضد العراق، فيما عارضَ الثاني هذا، وتوجه الى سوريا من أجل المعارضة لأجل المعارضة، وما بينها كان هناك نشاطات من مؤتمرات وصحف وما الى ذلك، ومن بينها إصدار صحيفة "الموقف" المعارضة في دمشق.

وبين بداية الثمانينيات، ظلّ المالكي رجل ظلٍ في الدعوة هناك، لم يكن اسماً واضحاً ومعلوماً رغم توليه مسؤولية تنظيمات الداخل العراقي، ومارس اثناءها أعمالاً تجارية، استثمرها أعداؤه فيما بعد ليتهموه بأنه كان يبيع الخواتم و"السبح" في منطقة السيدة زينب، بينما تحدث آخرون عن عمله في صيرفة وتحويل الأموال، لكن لم يثبت هذا بأي طريقة من الطرق، وظلّت أعماله شبه مجهولة في تلك الفترة.

وفي لحظة سقوط نظام صدام، كان المالكي من أوائل الذين عادوا لبغداد، فقد غادرها لربع قرن تقريباً، وبدأ بحصد المناصب، أو بمعنى أدق: ثمن معارضته، فاختير عضواً مناوباً في مجلس الحكم بزمن بريمر، ثم نائب رئيس المجلس الوطني المؤقت، فضلاً عن إسهامه بتأسيس الائتلاف العراقي الموحد، ثم رئيساً للجنة الأمن والدفاع في الجمعية، ويُقال أنه كان يحلم بأن يكون "قائم مقام قضاء طويريج"، لكن الحظ ابتسم له بشكلٍ كبير.

عام 2005 شغل ابراهيم الجعفري منصب رئيس الوزراء، اثر اول انتخابات عامة في العراق، لكن الكوارث المتتالية التي حدثت بعهده، ولم يستطع خلالها الإمساك بمزاج الشعب العراقي الذي يرغب بـ"رئيس قوي"، وانشغاله بتدبيج الكلام وتنميقه، ثم فشله بالتواصل مع الأطراف السياسية الأخرى، ثم إغضابه للإدارة الأمريكية، وليس انتهاءً بتفجير مرقدي الإمامين العسكريين، وأسباب أخرى، صار الأمر واقعاً: الجعفري انتهى أمره.

وبحسب "نيويوركر" الأمريكية، إن زلماي خليل زاد، السفير الأمريكي في بغداد بتلك الفترة، جلس على طاولة عشاء مع المالكي وسأله "هل ترغب بأن تكون رئيساً للوزراء؟"، ورغم فداحة ما مرّ به العراق تلك الفترة، وافق المالكي، وشكّل حكومته، ثم جاءت ثمار حكمه بشكلٍ سريع في الدورة الأولى.

بعدها بفترةٍ قليلة، فعل المالكي فعلته الكبيرة التي ظلّ حتى اليوم يتحدث بها، وهي: إعدام صدام حسين، ورغم أنَّ توقيت الإعدام كان مُستفزّاً للبعثيين والجمهور السنّي، إلاّ أن المالكي مضى ووقّع على إعدام صدام صباح أول يوم من عيد الفطر من عام 2006.

وفي سياق متصل كان الجوّ محتقناً، والاغتيالات والخطف والقتل على الهويّة مستمراً، فأطلق "خطة فرض القانون"، حيث كان "جيش المهدي" التابع للتيار الصدري قد أرهب المدنيين، لهذا أعلن حربه على "الميليشيات المسلحة" في عملية أسماها "صولة الفرسان"، فحاربهم بشكلٍ قاسٍ في البصرة ومدينة الصدر وواسط وبعض مناطق النجف الأشرف، وانتهى الأمر باستسلام المسلحين بأمر من مقتدى الصدر.

ولا بُدّ من صفعةٍ أخرى للمسلّحين السنّة، فأطلق المالكي حينها عملية "أم الربيعين" في محافظة الموصل، أدّت حينها الى تراجع مستوى الإرهاب في تلك الفترة، وعيش المناطق العراقية بفترة هدوء نسبي الى حدٍ ما.

كانت الولاية الأولى للمالكي إيجابية بشكلٍ كبير، حيث وقّع اتفاقية مع الولايات المتحدة الأمريكية لتنظيم عملية انسحاب قواتها من العراق عام 2008، وبالفعل حدث هذا وإن لم يكن بشكلٍ مطلق، لكنها كانت من ضمن الأوراق التي لعب عليها في الانتخابات التشريعية عام 2010.

أطلق المالكي (ائتلاف دولة القانون)، ليكون كتلةً شيعية كبيرة بمواجهة الائتلاف الوطني العراقي، فالمالكي بقي محتفظاً بذلك الإنسان الثأري القبائلي الذي لا يمكن أن يشاطر ما لديه الآخرين، فكانت علاقته متوترة بشكلٍ كبير مع المجلس الأعلى الإسلامي العراقي، والتيار الصدري، والسنة بالتأكيد، الأمر الذي كاد أن يُفقدَهُ الزخم الذي حصل عليه حين تأخر ائتلافه عن القائمة العراقية بمقعدين، حيث حصلت قائمته على 89 مقعداً في مجلس النواب، بينما حصلت العراقية على 91 مقعد. وبعد 8 أشهر من إجراء الانتخابات استطاع الفوز بمنصب رئيس الوزراء لفترة رئاسية جديدة بضغطٍ من إيران.

كلف المالكي رسمياً بتشكيل الحكومة في 25 نوفمبر 2010 وذلك قبل يوم من انتهاء المهلة الدستورية الممنوحة لرئيس الجمهورية جلال طالباني لتكليف من يتولى رئاسة الوزراء، واعتبر هذا التأخير بالتكليف الرسمي بهدف منحه أكبر وقت ممكن للتفاوض حول تشكيلة الحكومة وتوزيع المناصب الوزارية خلال مدة ثلاثين يوماً.

لكن الأمر لا يبقى على ما هو عليه، فهناك شخصية قبلية أخرى لا يمكن أن تكون هادئة، وبدأ حينها الصراع بين معسكر المالكي ومعسكر بارزاني، الأمر الذي فاقمه فريقا المالكي – مسعود من إعلاميين ونواب، فمن جهة كانت حنان الفتلاوي وكاظم الصيادي وآخرون يقفون بالضد من كل تصرفات كردستان، فيما كان الصحفيون المقربون من كردستان ينتقدونه على كل شاردةٍ وواردة، حتى وصل الأمر الى الفبركة والتشنيعات والاتهامات وغيرها.

استمر التأزيم، وبدأ الجزء المظلم من حكم المالكي، علاقةٌ سيئة مع الشيعة، وعلاقةٌ مثلها مع الكرد، أمّا علاقته بالسنّة، فقد كانت القشّة التي كسرت ظهر العراق بأكمله.

استمرّ المالكي بإشاعة نهجٍ يؤكد أنَّ العراق بحكومةٍ شيعية، فهو صاحبُ مقولة "أولا أنا شيعي وثانيا أنا عراقي، وثالثا أنا عربي ورابعا أنا عضو في حزب الدعوة"، واستمرّ بإقصاء وإبعاد ممثلي السنّة، فضلاً عن التضييق الذي مارسه بشكلٍ ممنهج أو غير مقصود ضدّ السنة بشكلٍ عام، فأُهملت المحافظات السنية، وعلى رأسها نينوى، وقرّب منه الشخصيات السنّية التي ليس لها قبول، ثم استهدف طارق الهاشمي، وبعده رافع العيساوي، ما أدّى لظهور ساحات الاعتصامات في محافظة الأنبار وفي عددٍ من مدنها.

لم يتعامل المالكي مع الاعتصامات بجدّية، فوصفها بـ"الفقاعة"، ما أدّى لازدياد الغليان الشعبي ضده هناك، ولأن الجمهور السني أصلاً يشكو من عقدة فقدان الحكم وذهابه الى الشيعة، كان تحوله الى التنظيمات المتطرفة بضغطة زر، وكان لا يحتاج الى أيّ مبررات.

استمرّ الوضع يتفاقم في الأنبار، حتى تمّ فضّ الاعتصامات بالقوّة، لكن حينها كان الوقت متأخراً، ولم يمض الكثير حتى تمّت هزيمة الجيش العراقي في نينوى والأنبار برمشة عين.

لم تكن الموصل التي أهملها المالكي بشكلٍ كبير ذات مقاومة أمام داعش، ذلك لأن الجيش كانت له ممارسات قاسية ضد الأهالي من جهة، وأنّ الجيش نفسه لم يكن عقائدياً فسقط بالإشاعة.

وبدأت تتهاوى المدن، مع استيقاظ الخلايا النائمة، وهذه السنوات المطوّلة من حكمه، التي لم يكن فيها إلاّ الإهمال والفردانية في الحكم، ومعارضة جميع الأطراف السياسية، حتى فقد العراق ثلثه بلحظةٍ واحدة، وتوالت المجازر: سبايكر، البو علوان، البو عجيل، بادوش، وغيرها.

رغم هذا، لم يكن المالكي ليشعر بذرّة ذنب، فالذنب ذنبُ الآخرين، ولم يفعل إلاّ الصحيح، وهذا يرجع لبطانةٍ مستشاريه التي طالبت مرةً بتمثال له في بغداد، ومرةً أخرى بوضع صورته على العملة، وغيرها، بل في شدّة خلاف الكتل حول استلامه للولاية الثالثة قال احدهم "بصراحة أنا أفكر حالياً، دولة رئيس الوزراء، بولايتك السادسة".

بدأ الوضع يتشنّج في كل فترة من فترات ولايته الثانية، حتى حانت اللحظة الفاصلة: لحظة الانتخابات التشريعية الأخرى عام 2014، ورغم أنّ التحالف الوطني الذي عاد له المالكي عودةَ الإبن الضال، حصد على أصوات جعلت منصب رئاسة الوزراء من نصيبه، إلاّ أن هناك خطاً أحمر اسمه: المالكي، رفضه الجميع.

آلت الأمور الى رفيقه العتيد، حيدر العبادي، الذي فعل أوّل ما فعله بورقة الإصلاحات، إلغاء عدد من المناصب من ضمنها منصب المالكي، الذي رضي أن يكون نائباً لرئيس الجمهورية.

لكنَّ المالكي بدأ يلعب على ورقةٍ جديدة، وهي "الحشد الشعبي"، من خلال الإيحاء والتذكير أنّه أول مَن أسس الحشد الشعبي، ودعمه، بمقابل الجيش الذي فشل بجعله قوياً على مدى السنوات، فمصطلح "الفضائيون"، وخراب المؤسستين العسكرية والمدنية، كانا قد استفحلا بعهده بطريقةٍ كبيرة، ورغم هذا يبدو الرجل بثغرٍ باسم، ولهجة قوية، وكأنه لم يستلم إلاّ يومين، وليس لسنوات.

ورغم إيجابية سنواته الأولى، إلاّ أن المرارة تكتنف المراقبين حين يتحدثون عن الدورة الثانية التي فشلت على جميع الصعد، ومن ضمنها تبديد الموازنات الانفجارية، التي بالفعل ذهبت الى جيوب المقاولين والساسة في عهده، وليس انتهاءً بسندات الأراضي غير الصحيحة التي وُزّعت على جمهوره في الانتخابات، حيث اشترك فيها عدد من النواب بتوزيعها على المناطق الفقيرة

لا يُمكن ذكر المالكي إلاّ بوصفه محطّماً للعراق الجديد، فدخول داعش، والتغييرات الجديدة التي طرأت في الحرب على الإرهاب، وانتهاك السيادة العراقية على كل المستويات، كتبت Game over على خارطة العراق من الموصل التي أخذتها داعش حتى اللحظة، مروراً ببغداد التي تثقب المفخخات شوارعها كلّ يوم، وليس انتهاءً بالبصرة التي أهداها مدينتها الرياضية بعهده، وسلبها ذهب نفطها بجولة التراخيص النفطية التي رهنت رأس المال العراقي الوحيد في زمنه الأسود هذا.

 

الغد برس.