الحلاج ضحية الهوس التكفيري(3)

 

 

 

 

 

تجديد تفسير الوجود 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي ديني .هكذا يرى الله دينه ويأمر رسوله ويقول له قل لمن يكفر لكم دينكم ولي ديني ولم يقل لنا إقتلوهم وحزَّوا رؤوسهم .  فالدين بالأقناع لا بالسيف.والدين بالفطرة والعقل لا بالفطرة وحدها .وما مقتل الحلاج على يد التكفيريين إلا مروق عن الأسلام وخروج عنه.

فلم يكن الحلاج كافراً ,بل مجدداً في تفسير الوجود الإلاهي والنصوص القرآنية والفكر الإسلامي, وعلوم اللغة ومن رواد مُوَلِديها ومجدديها ومفجريها , ومحاولته السعي للتخلص التام من أساليب الصياغة اللفظية الشائعة في عصره والمتوارثه, وطموحه الكبير الى إستبدال اللفظ الذي إهتُرِأً من كثرة التداول, بلفظ فضفاض يتخلق بالحرية من خلال السياق المتجدد. وقد تجلى تفجيره للّغة السائدة بإكتشافه لمعدن اللغة الصوفية الجديدة في النص الوحيد( الكامل) الذي بقي الى اليوم من مؤلفاته وقد كتبه الحلاج في سجنه –وهرَّبه تلاميذه- هو من أروع النصوص الصوفية على الأطلاق وهو:كتاب الطواسين. وفيه يفجر الحلاج كل التراكمات اللغوية والدلالية النمطية المألوفة .ويعود الى الحرف وهو أصل اللغة. والى التجلي والوضوح التام لها وهو(القرآن). إستفاد الحلاج من الدلالة الصوتية العميقة من جمع حرفي الطاء والسين. فغاص في الحروف . وجعل فصول كتابه الطواسين أي إن كل فصل منها (طاسين). فنسج على منوال النص القرآني بإعتباره المجلى الأصلي الأبلغ لصياغة الكلام الإلاهي صياغة عربية.فأتى بما يُجلي الحرف عن طريق الأضافة. فقد بدأت بعض السور بذكر الحروف ومن بينها الطاء والسين , اللذين بدأ بهما الحلاج , فكشف عن مفهوم صوفي يساوق الجمع اللغوي بين لفظين.وهو مفهوم صوفي يعني إن الحقيقة لا تدرك إلا من حيث النسب والإضافات ,فلا توجد حقيقة إلا من حيث نسبتها وإضافتها أي: إن حقائق الوجود لن تصبح قائمة فعلا إلا بعد إضافة هذا الوجود لله.

وإضافة الحلاج للطاء والسين هو مستوى آخر للّغة الصوفية عنده وهو مستوى الترميز.وهنا بين الحلاج إنه لا يمكن التحدث عن حقائق الطريق إلا رموزاً,بحيث صارت فصول كتابه:طاسين السراج,طاسين النقطة, طاسين الدائرة,إلخ....., والسراج هنا هو محمد(ص).النبي الذي إقتبس كل الأنبياء نورهم من نوره القديم الأزلي , الذي تلألأ منذ كان آدم بين الطين والماء.أما النقطة والدائرة , فهما من الأصطلاحات التي إستقرت في اللغة الصوفية , حتى أتى إبن العربي في -الفتوحات المكية -, فيجوس في مفاوزهما ويكشف عن دلالاتهما الخاصة, بالجدل المعرفي (الأبستمولوجي)وهذا علم جوهره الدراسة النقدية العلمية, التي تعتبر المعرفة إحدى المباحث الكبرى في الفلسفة التي تدرس طبيعة وشروط تشكيل المعرفة. وهي تختلف عن الدراسة الوصفية لمناهج العلوم. ولا تعتمد الحدس عند دراسة القوانين العلمية, بل تعتمد المنطق والجدل الأبستمولوجي هو الكاشف عن العلاقات الوجودية(الأنطلوجية) بين الله والأنسان والأنسان الكامل..وعلم الأنطولوجية هو العلم الذي يَدرس الوجود بذاته,الوجود بما موجود, مستقلا عن اشكاله الخاصة ,ويعني بالأمور العامة التي لا تُخفي أي قسم من أقسام الوجود,الواجب والجوهر والعرض, بل تعمم على جميع الموجودات,وبهذا المعنى فإن علم الوجود معادل للميتافيزيقيا أو ما بعد الطبيعة ووراءها.

ومن الحروف تتألف الأسماء التي هي الظهور الخاص لحقائق الأشياء, لذلك فعندما ميز الله آدم علمه الأسماء كلها, ثم أظهره على الملائكة. وواصل الحلاج غوصه محاولاً كشف حقيقة الأسماء. لأنها مركبة من حروف وضرب أمثلةً منها قوله طاسين الأزل والإلتباس.ما نصه :إشتق إسم إبليس من رسمه(يقصد :لأنه إلتبس عليه الأمر في الأزل) لأنه تعلق بالله على التجريد. فلم يسجد لغيره.وسار الحلاج هذا المسار للرجوع لبكارة اللغة ومادتها الأولى الحروف,والى دلالات المفرد المُميزلحقيقة الشيء (الأسم) , ليفتح بهذا بابا جديدا عظيما عُرف في التراث العربي بعلم الحروف والأسماء. وهو علم إستهوى الصوفية والفلاسفة وأرباب فقه اللغة. فإجتهدوا في معرفة السر المودع في الحرف. وبرع في هذا الكثيرون.وكان كتاب الطواسين علامة مهمة على طريق اللغة الصوفية الطويل عبر مراحل تطوره.ا وتطور اللغة العربية. لم يسكت الحلاج على طوارق الأحوال,فأسس تراثاً لغوياً صوفياً,ووجد مخرجاً تجاوز به أزمة اللغة ,التي تحول دون التعبير عن حقيقة الحال الذي يعاينه فقال:

للعلم أهل , وللأيمان ترتيب ,وللعلوم وأهليها تجاريب

والعلم علمان منبوذٌ ومُكتسبٌ والبحر بحران مركوب ومرهوب

والدهر يومان مذمومٌ وممتدحٌ والناس إثنان ممنوحٌ ومسلوب

فإسمع بقبلبك ما يأتيك عن ثقةٍ وأنظر بفهمك فالتمييز موهوبُ

أني إرتقيتُ الى طودٍ بلا قدمٍ له مَراقٍ على غيري مصاعيبُ

وخضتَ بحراً ولم يرسب به قدمي خاضته روحي وقلبي منه مرغوب

حصباؤه جوهرٌ لم تَدنُ منه يدٌّ لكنه بيد الأفهام منهوبُ

شربت ماءه ريّاً بغير فمٍ والماء قد كان بالأفواه مشروب

لأن روحي قديماً فيه قد عطشت والجسم ما مَسّه من قبل تركيب

إني يتيمٌ ولي أب ألوذ به قلبي لغيبته ما عشتُ مكروبُ

أعمى بصيرٌ وإني أبلهٌ فطِنٌ ولي كلامٌ إذا ما شئت مقلوبُ

ذوِ فتىً عرفوا ما قد عرفت فَهُم صحبي ومَن يحظَ بالخيرات مصحوبُ

تعارفت من قديم الذرِ أنفسهم فأشرقت شمسهم والدهر غربيبُ

فما أروعه من وصف (إني إرتقيت إلى طود بلا قدمٍ له مراقٍ على غيري مصاعيب) وما أغزرها من معانٍ وأما قوله :أعمى بصيرٌ وإني أبلهٌ فطنٌ ولي كلامٌ إذا ماشئت مقلوب : فيبين فيه مقدرته على صياغة الكلام بمعانٍ غير مألوفة فهو أعمى عن اشياء كما يعتقد البعض ولكنه بصير وهو أبله كما يظنون لكنه فطن.صوروصفات عند العامة متضادة ولكنه يعني تفسيراته الفلسفية التي لا يدركها إلا من أوتي ما أوتي به الحلاج من عقل  فلسفي متجدد.

جرب الحلاج الشعر الموزون كسبيل متاح للتعبير.فجربه فقال: مبرراً لباسه الرث بأنه قشر يخفي لُباً كريما وهويشعر بأن أمراً جسيما مساقٌ إليه فقال:

لَئِن أمسيتُ في ثوبي عديمٍ لقد بَليا على حُرٍ كريم

فلا يحزنك إن أبصرت حالاًمُغَيرةً عن الحال القديم

فلي نفس ستذهب أو سترقى لعمرك بي الى أمرٍ جسيمِ.

هذه القطعة الصغيرة على المستوى الصوفي تكشف عن مضامين متواضعة. حيث تؤكد على بقاء الذات , وتكتفي بالأشارة الى إمكانية فنائها.إذ أن الفناء درجة عالية في سلم الترقي الصوفي, وأن مسألة الحر الكريم تُعد من الوجهة الصوفية نوعاً من المدح المذموم للنفس. والصوفيون يؤمنون بضرورة كسر حدة النفس. كإحدى الرياضات الروحية للسيطرة على النفس والخلاص من رعونتها. وهنا الحلاج تجاوز أزمة اللغة.

أَعطى الحلاج دليل إدانته لجلاديه.فكان يتجول في اسواق بغداد صارخا:

أيها الناس إن الله قد أباح لكم دمي فإقتلوني,إقتلوني تُؤجروا وأسترح,إقتلوني تُكتبوا عند الله مجاهدين واُكتب أنا شهيد.

إستقرأ الحلاج مصيره,وأعطى العذر لمن يقتله الذي يجهل مراده,ومفاهيمه التي تفوق مداركه.