التجربة التي أُجريِتْ في أوائل هذه الشهر (نوفمبر) في مستشفى سنيبروك في تورنتو- أنتاريو – كندا تدعو إلى التفاؤل، وذلك باختراق حاجز الدم الدّماغي لإيصال علاج كيميائي إلى الدماغ خلال هذا الحاجز، والذي لم يكن يستطيع النفاذ خلاله من قبل. ولكن قبل أن أصف هذه التجربة التي أخذتُ مصدرها من جريدة The Globe and Mail الكندية ومن الإنترنت أودّ أن اذكر بعض الشيء عن هذا الحاجز وعمله وذكرياتي معه.
حاجز الدم الدِّماغي Blood-Brain Barrier (BBB) أول مرة لفت انتباهي لهذا الاسم الغريب كان في عام 1968 أو ربّما قبله بسنين أثناء دراستي مادة الفسيولوجي في كلية الصيدلة والكيمياء، لا أتذكّر. ولكنّني عرفته عند تسجيلي مادّة الإنسيفابول Encephabol في وزارة الصّحّة ذلك العام. والإنسيفابول عَقّارٌ أنتجته شركة أ. ميرك الألمانية عام 1961 وقد كنتُ مدير مكتبها العلمي في بغداد هذا العقّار المسمّى علميّاً (بايريثيوكسين) مشتقّ من فيتامين B6 – - بايريدوكسين، كما جاء في تعليمات شركة ميرك، وقد وُجد أنّه يزيد دخول جزيئات الأوكسجين والكلوكوز إلى الدِّماغ عبر حاجز الدم الدِّماغي إلى أنسجة الدّماغ فيزداد النشاط والحيوية لدى من يستعمله. لم أكنْ أعرف كيف يعمل هذا الحاجز وكيف تزداد جزيئات الأوكسجين والكلوكوز وبعض المواد الحيوية للدماغ ولكنّ العقّار ذاته لا ينفذ إلى الدِّماغ. وكنتُ أدرّس موظفي المكتب خصائص هذه المادة للدعاية لدى الأطباء بتوزيع نماذج منها مجّاناً ونشرات عنها وترويجها في الصّيدليات، وكنتُ شخصيّاً أقوم بهذا العمل أحياناً ، وخصوصاً لدى الأطبّاء المختصّين في الأعصاب. وذات مرّة زرت صديقي المرحوم الدكتور حسن القاسمي، أحد أطبّاء الكاظميّة المعروفين ولم يكن ذا اختصاص بل طبيب عائلة، ولكنّه وزوجته الطبيبة التركيّة يفحصون عشرات المرضى يومياً، وبدأتُ أشرح له هذه المادّة (علميّاً) وتأثيرها على حاجز الدّم الدِّماغي. فلمّا عرف أنّها تعمل على الدّماغ، قال لي: عيني بهجت أخاف أن أكتبها للمريض ويتخبّل! (يصيبه الخبال.) و(نصحني) بأنْ أروّج لها لدى الدكتور علي كمال والدكتور جاك عبّودي مثلاً وغيرهما من أطبّاء الأعصاب! أصبتُ بخيبة، ولكنّي لم أقنط، فقد زرته بعد شهر وأعطيته نموذجاً منها وقدّمتها بصورة أخرى قائلاً: إذا جاءك مريض يشكو التعب والخمول في النهار ولا يستطيع النوم أو أصابه داء النسيان أو عند سياقته السيّارة ينسى الجهة المقصودة وغير ذلك، فإنّ هذا العقّار ينبّهه ويشحذ ذاكرته فهو يساعد على التركيز ويحسِّن المزاج. فسألني إن كان له تأثيرات جانبيّة سيّئة، فأجبته بالنفي (حسب تعليمات شركة أ. ميرك حينذاك ولكن الآن، حيث لا يزال مستعملاً في أوروبا وأمريكا وكثير من الدول، ظهرت له تأثيرات جانبيّة في بعض متعاطيه تنحصر في الدوخة والغثيان وغير ذلك.) فكان جوابه أنْ سيكتبه لكثير من المرضى، وقد فعل! صار هذا الدواء مشهوراً في العراق وأخذ يستعمله بعض الأطبّاء والصيادلة أنفسهم الذين يشكون من داء النسيان أو قلّة النشاط الذهني أو الجسدي. وعند زيارتي أحد الأيام لصيدلية الأنصاري في الكاظمية لصاحبها الصديق الصّيدلي عبد العزيز الأنصاري سنة 1972 شاهدتُ الدكتور علي الوردي جالساً فيها، فهو صديقه أيضاً. فالتفت الصيدلي عبد العزيز إلى الدكتور علي الوردي وقال له هذا صاحب الإنسيفابول! رحّب بي الدكتور علي الوردي وطلب منّي نماذج منه قائلاً إنّه يستعمله ويشتريه وهو غالٍ (حيث كانت العلبة ذات العشرين حبّة تباع بسعر 600 فلس) وإذا لم يستعمله لا يستطيع أنْ يكتب! لا أتذكّر إن كنت أعطيته علبة واحدة أو علبتين. تمرّ هذه الذكريات سراعاً وأنا أقرأ التجربة الفريدة التي قام بها الدكتور تود مينبرايز Tod Mainprize في مستشفى سَنِيبروك (Sunnybrook) – تورنتو – كندا، وهي عملية تُجرى لأول مرّة على الدِّماغ باستعمال تقنية (تفتح) حاجز الدم الدّماغي لإدخال عقاقير لا (تنفذ) عادة خلال هذا الحاجز إلى أنسجة الدِّماغ ولكنّها بواسطة هذه التقنية تستطيع النفاذ/ العبور! فما هو هذا الحاجز؟ هو طبقة من خلايا مكدّسة تكوّن غشاء شعيرات الدم الصغيرة للدماغ يشكل حاجزاً أو مانعاً لنفاذ الموادّ التي يحملها الدم إلى المخ عبر الغشاء ما عدا كريّات الدم البيض، والكلوكوز والأوكسجين وبعض الموادّ الذائبة في الشحوم الموجودة في الغشاء. أمّا خلايا الدّم الحمر فلا تستطيع النفاذ. فكثير من الأدوية والجراثيم التي يحملها الدّم لا تنفذ إلى الدماغ وبهذا يقي نسيج المخ من الأضرار، فهذا الحاجز انتقائي، يمنع البعض ويسمح للبعض أنْ تدخل إلى المخ حيث يكون مفصولاً عن مجرى الدم. يتكون هذا الغشاء من خلايا دماغية وخلايا أوعية دمويّة. والصورة أدناه توضّح هذا التركيب الثلاثي؛ مجرى دم، غشاء ومخّ.
|