رحلة العودة الى بغداد في 10/4/ 2003 |
كنت قد تطرقت في مقالي السابق ( هجرة البغدادين الجماعية قبل عشر سنوات ) الى رحلة العودة من بعقوبة الى بغداد في مثل هذا اليوم من دون أن أدخل بالتفاصيل، والحقيقة أن الرحلة كانت شاقه جدا حيث كنت قد قررت العودة بعد أن سمعت هرج ومرج في الشارع الذي كنا نسكن ضيوفا فيه عند أقاربنا، وعندما خرجت للأطلاع على ما يجري وجدت الناس رجالا ونساءا وأطفال يحملون مسروقات من بينها سبورات وكراسي ومستلزمات مدرسية وغيرها من المنهوبات، فطلبت من الأهل الأستعداد بالعودة ألى بغداد فواجهت مقاومة شديدة من الجميع عندها أقترحت على مظيفي أن نذهب الى مركز بعقوبة لأستطلاع الموقف، وما أن وصلنا هناك شاهدت حركة نشطة للسيارات فأستفسرت من أحد المواطنين عن طبيعة الحركة فقال أن الناس بدأوا بالعودة الى بغداد، فرجعت للعائلة مسرعا وقلت لهم أذا ترغبون بالبقاء لكم ذلك أم انا ذاهب الى بغداد فأصبحوا أمام الأمر الواقع، وتحركنا الساعة التاسعة صباح اليوم الثاني للسقوط وأخذ منا الخروج من المدينة الى الطريق العام ساعة من الوقت، لأكتضاض الطرقات بالسيارات فتفاجأت بالعدد الهائل من السيارات التي سلكت شارع بغداد، وكانت الحركة بطيئة جدا ولاحظت أن جداريات صدام الموزعة في كل مفرق طرق ما زالت سليمة عكس ما نقلت لنا الأخبار عما حصل في بغداد ومدن وسط وجنوب العراق. كان الجانب الآخر من الطريق فارغ من السيارات تقريبا لأن الكل متجه الى بغداد ولا يوجد من يخرج منها، فخالفت قواعد السير وأنتقلت الى ذلك الجانب من الشارع معظم الطريق، حتى وصلنا الى نقطة سيطرة راشدية- الشعب فوجدت الدبابات قد أغلقت الطريق والسيارات مكدسة، فركنت السيارة على جانب الطرق وتقدمت الى أمام الحشود البشرية الذين ترجلوا قبلي، وأستفسرت منهم عما يحصل فقالوا لي أن الأمريكان يرفضون دخول الناس الى بغداد، وكان مترجم عراقي جالس في سيارة همر يحذر المواطنين من الأقتراب من العجلات العسكرية الأمريكية، وأمام أصرار الناس على الدخول وانا معهم أطلقت أحدى الهمرات طلقات تحذيرية تطايرت الاتربة على أثرها من دون أن يصاب أحد، وكل ما يفصل بيني وبين هذه الأطلاقات ثلاثة أمتار، فأنسحبت الى الوراء قليلا فجاء رتل أمريكي مكون من الهمرات وقد أختلط مع السيارات المدنية، فتحدثت مع أحد ضباط الرتل وقلت له لماذا تمنعون الناس من العودة الى بيوتهم فأجاب : سيفتح الطريق بعد نصف ساعة عند أكتمال مرور الرتل، فرجعت الى السيارة حيث العائلة ووجدت من يبكي لسماعهم أطلاق النار بقربي وترجوني بالعودة الى بعقوبة فرفضت، وبينما كنا نتحدث جاء صبي يركض وقال لي عمو من هنا يوجد طريق ترابي يوصلك الى نهاية منطقة الشعب أو حي أور، وفي هذه الأثناء جاءت سيارة حمل قديمة من الطريق الذي أشار اليه الصبي، فأستفسرت منه عن الطريق فقال: نعم أنه يوصل الى مدينة الشعب عن طريق منطقة سبع قصور ولكنه ترابي وكثير الحفر وتوجد في المنطقة خنادق ومبازل، فأستفسرت منه أن كانت سيارتي تستطيع اجتياز هذه العقبات قال : نعم ولكن بصعوبة فتوكلت على الله وكل من معي متجهم الوجه، وفعلا كان الطريق شاقا وقبل أن نصل الى منطقة سبع قصور حانت مني ألتفاتة الى الخلف فوجدت سلسلة من السيارات تتبعني ويبدوا أنهم سمعوا الحوار الذي دار بيني وبين الصبي وسائق سيارة الحمل فقلت للاولاد انظروا للوراء فعندما شاهدوا السيارات تتعقبنا أنشرحوا قليلا، وعندما وصلنا الى منطقة سبع قصور وجدنا بعض الشباب يحملون أوعية ماء ودعونا للشرب فشكرتهم لأن معنا ماء في صندوق فلين، وبالقرب من منطقة سبع قصور شاهدت الكارثة التي حلت بأكبر مخازن تعود الى وزارات متعددة في تلك المنطقة حيث الحرائق والنهب الهمجي بالعجلات الصغيرة والكبيرة والحمل وعلى الحيوانات والأكتاف والدفع بالعربات ومن بين ما شاهدت صبي كان يدفع بعربة عمليات طبية فسألته عمو ( هاي شنو ) أجاب : عمو ما أعرف شفت الناس ( تبوك ) وأنا أخذت هاي العربانة، كان الممر ضيق والمسافة قصيرة وبالقرب من منطقة تسمى حي البساتين ولكنها أخذت منا حوالي ساعة وقتا، وعندما أجتزناها دخلنا الى نهاية منطقة لا أعرف أن كانت تعود الى حي أور او مدينة الشعب وما أن شاهدتها حتى شعرت بالكارثة التي أصابت بغداد العزيزة . فتراءى لي أن جدران المنازل قد طليت بطلاء الكآبة، والمعدات العسكرية متنائرة، وهرب جنودها وكذلك مدافع مقاومة الطائرات والراجمات والرباعية وأكداس من العتاد لا تعد وتحصى، وشاهدت بعض السراق ياخذون البانزين من السيارات التي لا والي لها، وما أن تقدمت قليلا حتى شاهدت الحواسم زرافات بمسروقاتهم المتنوعة، وكان الالم يعصر قلبي وقلت بعد أيام سيشكوا هؤلاء الأغبياء عدم وجود المستشفيات والمدارس والوزارات والمؤسسات التي تجعل لكل منهم قيمة وهوية . وكلما توغلت داخل بغداد شاهدت عجبا، ودخلت من جهة الطالبية الى قناة الجيش بأتجاه بغداد الجديدة، فوجدت مختلف الاسلحة المنصوبة قد تركها الجنود كما هي وهربوا وصادفتني ثلاثة دبابات أمريكية كانت متجهة نحو ملجأ يقع بالقرب من قناة الجيش وأخذت وضع الأحاطة به، وكلما تقدمت شاهدت المزيد من الأسلحة العراقية المتروكة بين صالحة للأستعمال وبين محطمة متروكة، ولاحظت الدمار الكبير الذي لحق في مبنى وزارة النقل والمواصلات بسبب الحرائق التي أشعلها القصف والسلب والنهب، الذي ما زال مستمرا وعندما دخلت النفق القريب من مدينة الالعاب شاهدت ما تركه صاروخ امريكي في نهاية النفق وسقوط بعض الاشجار وقطعت اجزاء من الطرق، وبعدها بقليل وصلنا الى قرب سوق الثلاثاء الذي كانت الحرائق مشتعلة به والدخان يتصاعد واللصوص وضعوا مسروقاتهم أمامهم بأنتظار من ينقلهم، بعدها توجهنا الى بغداد الجديدة بألحاح من الأولاد وشاهدت فرن صمون مفتوح وأشتريت منه ما يسمح ببيعه، وأسترحنا عند أقارب لي هناك لمدة ساعة تقريبا وأنا قلق مما شاهدت من عمليات النهب والسلب، ونقل لي أقاربي أن الجنود الأمريكان ومعهم مترجم ومصور كويتيان قاما بكسر باب بنك صغير في المنطقة والمصور يصور والشخص الثاني يصيح ( أفيش اليوم يومك يا جابر / يقصد أمير الكويت ) وبعد كسر الباب دخل الحواسم للبنك ونهبوا كل ما فيه، وزاد هذا الخبر من قلقي على مصير داري التي تقع على تخوم بغداد بالقرب من منطقة ريفية، وبساتين الدورة التي تقع فيها الكثير من بيوت أستراحة أقطاب النظام السابق، وتركنا بغداد الجديدة بأتجاه الدورة وسلكت جسر معسكر الرشيد الذي شاهدت عليه الكثير من السيارات المحترقة مما ذكرني بالأخبار التي كنت أسمعها قبل يومين عن معركة المعسكر آنفا، وعندما عبرت الجسر الى جانب الكرخ / الدورة كانت عمليات النهب على أشدها في مزارع الدورة التي كان قصفها بداية أعلان الحرب، وعندما وصلت الى منطقتنا وهممت بدخول الشارع المؤدي الى بيتنا سمعت شاب ( أحمد أنعيس ) يصرخ ( أبو علي لا تدخل ) فتوقفت، وجائني يركض قائلا المنطقة قصفت بالعنقودي وبيتكم من البيوت التي أصابها القصف، وأن أبو اركان قتل مع أولاده بهذا القصف، وأن الكثير من هذه القنابل ما زال في الشارع لم تنفجر، ووضعنا عليها سعفا وأمامها طابوق للدلالة، وان السيارات لا تستطيع دخول الشارع، عندها جائني جيران مسيحي ( ابو نوار ) وهنأني بسلامة الوصول وأكد ما ذكره الشاب وطلب مني ركن السيارة قرب بيتهم أو أدخالها عندهم والذهاب راجلين الى البيت فعملت بنصيحته، وشاهدت فتاة كانت تعمل مع عدي في اللجنة الأولمبية وهي مبرجة ومعها صبي وأمامهم ثريا كبيرة وثمينة فقلت لها ما هذه قالت حصلت عليها من بيت خير الله طلفاح فغمز لي جيراني المسيحي قائلا بيت خيرالله نهبوه ولعنت في نفسي هذا النوع من البشر لأن هذه الفتاة كانت تقضي الليل تسهر وتمرح مع عدي وأولاد خير الله طلفاح، ولم يتجاوز عمرها العشرين سنة . وتوجهنا نحو الدار وكانت القنابل العنقودية منتشرة في الشارع، وطلبت من الجميع الانتباه خاصة وان أربعة من هذه القابل شاخصة عند باب دارنا، وأول ما لاحظت سعف النخلة الوحيدة في حديقة داري وقد قطعت القنابل حوالي عشرة من هذه السعفات، كما أن باب الدار مصابة وفيها عشرات الثقوب، وعندما فتحنا الباب ودخلنا شاهدت زجاج النوافذ مهشم وطلبت من الجميع عدم النزول الى الحديقة حتى أتأكد من خلوها من المتفجرات، ووجدنا الزجاج متناثرا في الدار وألحق الكثير من الدمار بداخلها، ولم تسلم غير زجاجة واحدة في الطابق العلوي تهشمت لاحقا عندما فجر الامريكان القنابل المنتشرة في الشارع بعد عشرة أيام وبألحاح مني، وقمنا بتنظيف الطابق السفلي على عجل لأن الليل أدركنا وبلا كهرباء، وأفترشنا أرض الهول على ضوء الشموع والفانوس، وساعدني التعب المضني على النوم لبضع ساعات لتبدأ في اليوم التالي حكاية جديدة مع مخلفات صدام التي لاتنتهي .
|